الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. مدحت عبد الجواد يكتب: يوجينيا الأفكار

صدى البلد

إنني أتحدث اليوم عن أنواع شتى من اليوجينيا التي انتشرت في عصرنا الحديث، والتي باتت تفوح رائحتها العفنة في كل مكان، وصارت تلوث حياتنا بل وتخنق أنفاسنا، مثل هذه الأفكار والتصرفات تحتاج إلى التصدي لها بالفكر والثقافة والصحوة؛ لمواجهة تسللها لمجتمعاتنا، وحقًا من الأفكار ما يسب القتل إذا تبناها أصحاب الفكر الفاسد والضمائر الخربة من المنتفعين والانتهازيين.

في الجاهلية، انتشر نوع من النكاح يسمى نكاح الاستبضاع: بأن تُنكح المرأة من قبل رجل آخر بموافقة زوجها، ولا يمسسها زوجها حتى يثبت حملها من ذلك الرجل، رغبة في تحسين الصفات من شجاعة وفروسية وحكمة وقيادة، فإن ضاجعت الزوجة فارسًا شهيرًا سمي ذلك الاستبضاع "الاستفحال" بمعنى صفات الفحولة، وقد قضى الإسلام على هذه العادات وحرَّمها.

وفي مجتمع الرومان الذي انقسم إلى طبقات (النبلاء – الأتباع – العوام – العتقاء – العبيد...)، لم يكن للعبيد حقوق، ولعلك تعرف شيئًا عن ما يُسمى "حق اليوم الأول"، بل وصل الأمر إلى الأكثر فسادًا؛ لتنظيم قوانين للعري والخلاعة والدعارة والفحشاء، وكذلك الانحراف والشذوذ الجنسي، فكان في البلاد رجال مخنثين.

نشأت فكرة اليوجينيا حديثا عام 1883 م على يد فرانسيس جالتون الذي زعم أن نزعة الخير والإنسانية عند الأغنياء جعلتهم يسمحون لغير الصالحين (الطبقات الأقل) بالإنجاب، ومن ثم أصبح البشر في حاجة للانتخاب الصناعي، وانتشرت هذه المقولة وهذه الأفكار؛ لتهدد حياة الفقراء والعامة من البشر الذين لا يمتلكون حق التكاثر والإنجاب، في مقابل الفئة الأغنى من أصحاب الطبقات العليا الذين من حقهم التزاوج والتكاثر دون غيرهم، ومن هنا انتشرت النزعات والدعوات للقضاء على المجتمعات الفقيرة وتهديد المجتمع الشرقي، والعجب كل العجب أن شعوبًا كثيرة مثل الصين وغيرها انخدعت بهذا الأمر، وطبقت أفكار تحديد النسل بطفل واحد لكل أسرة، ثم ثبت فيما بعد خطأ هذه الشعوب وغيرها وأنهم أضاعوا ثروتهم البشرية، وكذلك بعض دول أوروبا وإيران وغيرها من الدول، والآن عاد الجميع يعلمون أهمية الإنجاب، حتى أن بعض هذه الدول نفسها باتت تحث عليه وتشجع المواطنين عليه، في الوقت الذي حدث ذلك بدأنا نحن نطبق ما أثبت فشله لدى هذه الدول، والأمر لا يتعلق بالاقتصاد من قريب أو بعيد، بل هو تنفيذ لرغبات زعماء اليوجينيا في العالم، ولأحلام ومخططات هؤلاء الذين يخشون من زيادة النسل في المجتمعات الشرقية.

وقد تندهش إذا قرأت عن حجم الأموال التي يخصصها هؤلاء اليوجنيون، وضخهم لتلك الأموال داخل البلاد الفقيرة بصور شتى، بل وتدريبهم واختيارهم لكوادر سياسية ذات شأن؛ لتنفيذ هذه الأهداف داخل البلاد المستهدفة، وبطبيعة الحال فإن المستهدفين لتحديد نسلهم، هم تلك القرى الفقيرة التي أصابها "الجهل والفقر والمرض"، فليس من حق هؤلاء التناسل وعلى العظماء أن يروجوا بكل نفيس وغالٍ لسياسة اليوجينيين.

إن ما يجهله الغرب اليوجيني أننا بتنا نفهم اللعبة، وأننا لن نسمح لمن يهدد هويتنا بتنفيذ مخططاته؛ ليقضي على البقية الباقية من عوامل تميزنا ونهضتنا المتمثلة في العنصر البشري الذي هو مصدر قوة شعبنا، فإذا ما فرطنا في ثروتنا البشرية فماذا يبقى لنا نتفاخر به على الأمم؟!!

لقد رسخ الغرب في عقولنا أن حضارته وأفكاره هى مركز الحضارات، حتى بات كل ما نفعله يُقاس بحضارتهم، وكل ما ننتجه من أفكار وتقدم وعلم وأدب يقاس بمقياسهم، راجت هذه الأفكار وغيرها مع كبار الأدباء أمثال طه حسين" وغيره، لكن الأمر بات مختلفًا في ظل عصرنا الراهن الذي أخذ على عاتقه مهمة مناقشة الحضارة الغربية والفكر الغربي، والتصدي له بالمثل ونقده وتفكيك عناصره، بل إن الغرب بات يدرك قوة تراثنا وحضارتنا، الأمر الذي دفعه إلى تهديد وجودنا بطرق متنوعة من وقت لآخر.

وإذا كنت اليوم أتحدث عن اليوجينيا من زاوية أخرى ألا وهى يوجينيا الأفكار، فإن ما يهمني هو التناقض بين الأفكار أو المعتقدات والأفعال من أجل إقصاء الآخر، ذلك الأمر يتناقض مع معتقداتنا ويتناقض مع ديننا الحنيف، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" (الصف 2، 3)، فإن ديننا الحنيف يأمرنا بزيادة النسل ويحث عليه، وورد هذا المعنى في عدة أحاديث منها ما رواه النسائي وأبو داود والإمام أحمد بلفظ: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم"، ومنها: " تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة"، وهو حديث صحيح رواه الشافعي عن ابن عمر.

وإن أمر الرزق من الثوابت الإيمانية لكل مسلم غير أن بعضنا يخشى الفقر بزيادة النسل، وإن هذا لأمر يقدح في عقيدتنا ويقيننا الإيماني يقول تعالى: "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) (الإسراء 31)، إذن القضية محسومة ومعلومة لا يجادل فيها غير من يخدع نفسه.

أمور أخرى كتلك القضية ألا وهى قضية يوجينيا الحجاب، فإذا سألنا كل مسلمة ومسلم صادق العقيدة لقال إنه فرض بنص الآيات الواردة في سورة "النور"، والأعجب أن أغلب الرجال تلاعبوا بهذه القضية، وأكثر النساء استخف بفرضية الحجاب رغم أهميتها وأثرها في نشر الفضيلة في مجتمعاتنا بتطبيق فرضيتها، فترى أغلبنا مندفع في التعامل مع نساء غير محجبات بل ويرفع من شأنهن، وكأننا نشجع الفساد ونحثه على الانتشار.

إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته أعطونا درسًا لا يُنسى في مقاطعة من تخلف عن العزو بالمقاطعة حتى تابوا فتاب الله عليهم، ونحن عزَّ علينا مقاطعة النسوة اللائي قاطعن أمر الله، ووصفهن الرسول في حديثه، بأنها إذا تعطرت وخرجت على قومها بأنها.. كذا وكذا.. ومقاطعة هؤلاء هو اعتراض على سلوكهن من المجتمع المؤمن حتى ينصلح أمرهن، بل إن أغلبنا يقاطع المحجبات أنفسهن حتى يضطرهن إلى كشف مفاتنهن.

وليعلم كل عاقل: أن الدين كلٌ متكامل، ولن يصلح بحال من الأحوال أن ننهض ببعضه ونترك بعضه، إن أبابكر الصديق وصحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم) قاتلوا مانعي الزكاة، رغم أنهم قالوا: نطبق كل شيء عدا الزكاة، وفي هذا أسوة لنا بتكامل أمر الدين.

إنني إذ أتحدث عن أصناف من الرجال قبلوا الميوعة في دينهم، والتزموا التطفيف في أخلاقهم فما كان يخدمهم قبلوه وما كان ضدهم رفضوه، وباتوا يخطبون في المنتديات بالفضيلة والأخلاق وارتضوا في سلوكاتهم ما لا يرضي الله من قول وعمل، وأنواع أخرى من النساء غرتهن الدنيا بزينتها وسولت لهن أنفسهن أن الحياة باقية، والغواني يغرهن الثناء، ولذا أذكر نفسي ومن يقرأ كلامي هذا: بأن لايكيل بمكيالين؛ ليقصي الآخر لحساب نفسه، ومن أهم المفاتيح التي يتسلل إلينا الغرب عن طريقها، تلك المنظومة المتمثلة في فلسفة برتراند راسل (الفقر، والمرض، والجهل)، وقد أوضح أن أهم أضلاع هذا المثلث وأخطره "الفقر"، ذلك الذي يدفع بالفقراء إلى الجريمة وربما دفعهم إلى غياهب الذل والحاجة، ومن هنا يبدأ الغرب في ضخ أموال عن طريق جمعيات وكيانات بأسماء مختلفة، بخدعة مساعدة الفقراء وتحت شعار القضاء على الفقر، وحقيقة الأمر أنهم يدسون السم في العسل مستغلين حاجة الفقراء، ومتى تعنْ المحتاج يستمعْ إلى كلامك ويثق في نصحك، ولذا تقدم تلك الجمعيات والمؤسسات قروضًا ميسرة ومساعدات للمجتمعات الفقيرة، في الوقت ذاته تعمل على نشر أفكارها المستهدفة، بحجة التوعية من الناصح الأمين والتي تمثل جرعة السم المختفية في العسل، وقد بينا فيما مضى خطر القروض ودورها في تدمير الاقتصاد، وتأثيرها على اتخاذ القرارات للدول والأفراد، وكذلك ما يتبعها من تشتيت الجهود الخلاقة والمبدعة التي من شأنها أن تطور المجتمع وتعيد نهضته، وتحدثنا عن هذا الإخطبوط المتمثل في شبح القروض، اقرأ إن أردت كتاب "قراصنة الاقتصاد" المنطلق من الفكر الأمريكي على يد المجموعة الدولية المدربة التي تتحرك؛ لتقوم بدورها في إيقاع الدول والأفراد في شبكة القروض ومن ثم امتلاك زمام أمرهم.

فما أسوأ يوجينيا العصر الحديث!!!