الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

شوارع نظيفة وملابس داخلية


فى رحلتها التى بدأتها منذ أكثر من ربع قرن لم تترك بلدا فى الغرب السعيد كما كانت تصفه إلا وزارته وعاشت فيه وعاشته.

ربع قرن من الغربة والاغتراب بدأتها منذ أن تركت بلدها حاملة معها مؤهلها المميز وقلبها المطعون وآمالها الجامحة، تركت وطنا لم تسعد فيه ولم تره محققا لآمالها وأمانيها الجسام، تحدت أسرتها ومجتمعها كله وتمردت على كل ما فيه واستطاعت أن تخرج من أعتاب التقيد إلى آفاق الحرية؛ وبإيمان بأنها لن تتراجع ولن تعود وستحقق كل ما رسمته استطاعت أن تتخطى كل الصعاب وحفرت بعزيمة فولاذية اسمها فى أكثر الدول الغربية فخرا وافتخارا ؛ فى ألمانيا عاشت وأصبحت ذات مكان ومكانة ووسط اعتلائها سلم نجاحها وتحقيها معظم ما سعت إليه إن لم يكن كله نست أن تبنى أسرة وبيتا ونست أنها امرأة فى الأساس.

فوسط بلد الماكينات أصبحت ماكينة هى الأخرى؛ لم تشعر بسعادة المرأة الطبيعية من زواج وإنجاب ولكن نهلت من معانى السعادة الحياتية من اعتلاء المناصب وعلو نجمها وسمو وضعها ومعهم كانت تزداد أصفار رصيدها البنكى، أتقنت اللغة الألمانية ولكنها حافظت على لغتها الأم وكانت تتحدث بها كثيرا حتى تجبر لسانها على الاحتفاظ بمعانى هذه اللغة التى ولدت بها ومعها.

كانت تواظب على دعوة أهلها لزيارتها لأنها لم تكن تملك وقتا لرؤيتهم وكانت تغدق عليهم ولم تنس يوما بلدها وكانت تحرص على أن تسهم فى جميع المشاريع الوطنية بخبرتها وبدون مقابل مادى، فى داخلها كانت تتمنى أن تكرمها بلدها كما فعل معها أهل غربتها؛ ولكن بلدها تناستها ولم تلتفت لهذه الجزئية المهمة بالنسبة لكل مغترب يهفو لأن تشعره بلاده بالحب والاهتمام.

مضى بها العمر وكلما تحدثت إلى بنى وطنها وتحدثوا معها كانت تذكر لهم حكاية رجل الدين الألمانى الذى أعلن إسلامه وصار له مريدين ومحبين وجاب العالم كله، وكان فى البدء يقول الحمد لله أننى لم أسلم إلا قبل أن أزور بلاد المسلمين، وإلا كنت أجلت إعلان إسلامى ليوم يبعثون، وكانت تستطرد فى حوارها وتحكى لهم ما قصه عليهم هذا الرجل الجليل عندما عاش فى مصر لفترة ليست بالقصيرة وهو يقص عليهم تجربته فى مصر التى غيرته وغيرت مفاهيمه كلها عن بلاد المسلمين فقد كان يقول لهم: عشت فى منطقة الحسين وصار لى مريدون ومحبون وسألنى أحدهم ذات مرة: إنت بلدك فين؟ فأجبته بأننى من ألمانيا؛ فرد بفهلوة المصريين الجميلة: أحسن ناس؛ فضحكت وقلت له كيف عرفت ذلك فأجاب بسرعة؛ يا مولانا ديه بلد الناس الشغالة والنظام والالتزام والتحدى ديه بلد مرعبة، فقلت له أنت ترى الظاهر ولا تعلم ما أعلمه أنا كمواطن ألمانى ففى هذا البلد الذى يبهرك بنظامه ونظافته وانتظام والتزام مواطنيه، تسجل ثمانى مائة حالة انتحار كل ثمانٍ وأربعين ساعة؛ كما أن ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون مواطن مسن يقوم أبناؤهم وبقلب ميت بإيداعهم فى دار المسنين بدعوى أن الأبناء لا يملكون الوقت ولا المزاج لرعايتهم.

فى بلد الماكينات، المواطن الألمانى إذا قضت عليه ظروفه عندما يمرض بأن يطول بقاءه فى المستشفى قلما يأتى من يزوره، فى حين نفس المواطن المسلم يزوره كثيرون لأنهم يعرفون أن من زار مريضا فقد رأى ربه، فى بلدى هذا الاغتصاب والسرقة يمثلون هاجسا وقلقا وهما لم تستطع القوانين الغليظة أن تنتزعهما من مجتمع يعمل بالآلة الحاسبة، فى بلادى هذه وإن كان الطب فى أقصى درجات رفعته ورقيه، إلا أن المرضى يصابون باليأس السريع وتتحول أمراضهم إلى مأساة وجزع وهلع على عكس من يؤمنون بأن المرض إما ابتلاء تكفر به الذنوب أو ترتفع منزلة المريض به درجات فى الجنة.

صديقى الذى رأى الشوارع الغربية النظيفة المبهجة لم ير ما خفى وهو أعظم، لم ير الملابس الداخلية المتسخة بآفة التقدم والخواء الإيمانى، ويصمت مولانا عن حديثه وفى داخله أمانى لم يطلعنا عليها ولكنه كان يحرص كل الحرص على البقاء أطول فترة ممكنة فى قاهرة المعز يجدد فيها إكسير حياته كما كان يقر ويعترف، والآن تنظر صديقتنا إلى المستمعين إليها وترى الاستغراب فى أعينهم فتعطى لهم اسم وعنوان رجل الدين الألمانى ليتأكدوا بنفسهم وتعود هى ترسا فى ماكينة عملها وأحلامها.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط