الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د.ماري جرجس رمزي تكتب.. الثُقب الأسود

صدى البلد

لِمَن لا يعرف الثُقب الأسود .. هو منطقة فى الفضاء من الزمكان تصل فيها الجاذبية إلي مقدارٍ لا يستطيع أي شئ الإفلات منه .. لدرجة أنها تمتص الضوء ذاته فى الفضاء فيغرقُ فيه و يختفي و تبتلعهُ فتُحيلَهُ إلي ظلامٍ دامس و لذلك سُميت بـ "الثقوب السوداء" ..

كثيرًا ما سَبَحتُ في ذلك الفَلَك البديع ، أهيم فى نظرية أينشتاين "النسبية" .. أحاول أن أفُكَّ طلاسِمها و أتفهَّمها، ولكن سُرعان ما يَغلبني شيطانُ فلسفتي ، يُغريني و يستميلَني ؛ لأذهب معهُ في جولاته و أترُك العلمَ و العقلَ جانبًا لوَهلة.. و أطلقتُ العنانَ لخيالي كالعادة و تجاسرتُ و لَملَمتُ أذنابَ شجاعتي و قررتُ الاقترابَ مِن ذلك الثقبِ الأسود.. اقتربتُ أكثر فأكثر و كلّما اقتربتُ ، تكشَّف لي أكثر و أكثر و فجأة .. ارتسمَ أمامي واضحًا كاملًا ، و كَم كان مألوفًا لديَّ ! فذلك الثقب الأسود ما كان إلّا الحياة..

حياةٌ صاخبة مضطربة تتزاحمُ فيها الأصوات.. تتصاعد و تتصارع.. الكل يسمع ولا أحد يُنصِت.. تتداخل موجات الصُراخ و الضحكات.. و تتشابك ذبذبات الحُزن و الفَرَح.. باتَ المشهدُ أشبه بعاصفةٍ شعواء ليس لنهايتها بادرة. نحيا -و إن خِلنا أنفَسنا أحياء- في عالمٍ فقد مقومات الحياة برُمَّتِها.. فلقد أدخلنا فيها الكثير والكثير من الهراء الذي أصبح يضغط على أعصابنا و حواسنا و مشاعرنا بلا أدنى داعي.. و أثقلنا عقوَلنا و قلوبَنا بمهامٍ و همومٍ كَم نحن في غنى عنها! فصارت حياتنا أشبه بالغرفة المكتظة بأثاثٍ ضخمٍ ثقيلٍ غالى الثمن و لكنَّا لسنا بحاجة إليه.. نراكِمَهُ بعضه فوق بعض فأصبح لا يسنحُ لقدمٍ أن تطأ فيها.. بالكادِ ندخلُ فيها، نَقبعُ في زاويةٍ ضيقة، بصعوبة تحتوينا من فَرطِ الازدحام.. نبحثُ وسط هذا الكَم من المتاع عن أساسيات حياتنا هباءً فلا نَجِدها و نتساءل لرُبّما دُفِنَت تحت هذا الكَم الرهيب من الأثاث ضخم الحجم ضحل القيمة.. و لرُبّما نسينا أن نقتنيها من الأساس وسط انشغالنا بجمع ذلك الأثاث، فنجلسُ كل يومٍ لحظات صدقٍ مع أنفُسِنا في ثُقبِنا الأسود.. حياتنا.. غُرفَتنا تلك.. نتحسس احتياجاتنا بقلوبٍ مهزومةٍ حزينة اعتادت أن تفخرَ نهارًا و تَجهَرَ بما تقتنيه من أثاثٍ و متاعٍ و عتادٍ باهرٍ باهظ الأثمان

بل و نتفاخر أنه أغلى و أقيم مما لدي غيرنا.. نَرمحُ كالفَرَس الجامِح لا يَدرى شيئًا إلا انه في سباقٍ و عليه ألا يتوقّف..

و يأتي المساء و يزحفُ الليل و يَنِخُّ هذا الفَرَس كعادته في حجرتهِ الفَخمة المُكدَّسة بكلِّ ما يُبهِرُ الناظرين.. يتحسس بشغفٍ قطعة صدقٍ وسط الأكاذيب و الأوهام.. يتلمَّس حُبًّا صادِقًا.. يَطوقُ لصداقةٍ وَفية.. يشتهي مشاعِر مُجرَّدة من الأغراضِ و المصالِح.. لكنه يُصدَم... فحُجرَتهِ خاوية!! خاويةٌ مما يحتاجه ليكون إنسانًا.. فيحزَن و رُبَّما يبكي.. وتنهَمِرُ الدموع من عينيه غزيرةً ساخِنة مِن حُرقةِ القَلبِ لا تجد مَن يشعرُ بها و يمسحها عنه و يضمه بحنانٍ صادِق.. فيقسو علي نفسهِ أكثر و يغرقُ فى ذلك الثُقب الأسود أكثر و أكثر،، و يستيقظ مبكرًا ؛ ليعوِّض كل ما ينقص روحهِ و يجعل منه بشرًا جميلًا فيّقيد نفسه بمزيدٍ من القيود و يثقِلُ كاهله بمزيدٍ من الأثقال و يزدري الإنسانية و الحب و الخير و يظل يدور في دائرة مفرغة تسحبه إلى داخلها،، تبتلعنه.. فيضيعُ و يختفي داخل ذلك "الثُقب الأسود".