الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. مدحت عبد الجواد يكتب: تعليم فاشل يدفعنا إلى الفقر

صدى البلد

لا أعرف من الذي يجب علىَّ أن ألومه؟! هل ألوم نفسي؟! أم ألوم المجتمع؟! أم ألوم نظام التعليم في بلادي؟!، مثلي مثل غيري من آلاف المتعلمين الذين آمنوا بالعلم والتعليم، وقد بذلت فيه كل نفيس وغالٍ ، لم أدخر من الجهد أو الصحة أو العمر الذي أفنيته وأنا أطالع الكتب، وأدون الأفكار، وأجمع الشهادات يجاور بعضها البعض، غير أني -وبعد هذا العم - أيقنت أن نظام التعليم في بلادي يدفعنا دفعًا تجاه الفقر.

وكيف لي أن أفسر أن أكثرنا علمًا قد يقضي شطر عمره؛ حتى يستطيع أن يجمع ما يكون ثمنًا لشقة، وقد يقضي شطر عمره الآخر؛ ليجمع المال كي يشتري سيارة، في الوقت ذاته قد تجد الحرفيين وربما رجال الأعمال وغيرهم الكثير، ربما ينعمون بثراء وحياة لا يستطيع العالم توفيرها لنفسه؟! ولا تقل لي: أنه رزق فهذا أمر لا شك فيه عندي فهو مذهبي وعقيدتي، غير أننا مكلفون بالبحث في الأسباب والأخذ بها، فهذا العالم لم ينفعه علمه، ولم يوفر له المال الذي يكفيه لمتطلبات الحياة، وبالطبع فإن علمًا لم يخدم صاحبه فلن يخدم المجتمع، ولن يقدم للمجتمع ما يرقى به.

قد كان في عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- الغني كسيدنا عثمان وسيدنا عبد الرحمن بن عوف، وقد كان منهم الفقراء من أصحاب الصفة كسيدنا أبو هريرة وغيرهم، لا يقلل هذا من قدر هذا ولا ينقص هذا من قدر هذا، بل لا يستطيع عاقل أن ينكر دور المال الذي دفع به سيدنا عثمان في تجهيز جيش العسرة، ولا يستطيع عاقل أن ينكر فضل المال وحث الإسلام عليه بالحلال، وأيضًا.. لست هنا للدعوى إلى التكالب على جمعه، والتفاني والتقاتل في سبيل الحصول عليه، بل أدعو لتغيير فكرنا تجاه نظم التعليم، تلك النظم التي تدربنا على أن نقبع خلف وظائف ومكاتب، ونقبع خلف أفكار بالية، ونضع عقولنا في أدراج ونهمل مسيرة الحياة وتغير الأحوال.

قديمًا كانت الحياة تقوم على التبادل اليسير بين الأطراف في السلع ثم ظهرت العملة فغيرت طرق التعامل ثم تقدم العلم فأنتج المخترعات والبدائل التكنولوجية التي غيرت مسار الفكر وأوجدت بدائل في التفكير، إن ما أنتجته التكنولوجيا من حلول لمشكلات العصر أصبح في حد ذاته مصدرًا للثراء غيَّر فكر المجتمعات وصنع العالم المتقدم الجديد ، فلم يعد العربي يتنقل في البادية مستخدمًا الجمل بل صار يركب أحدث أنواع السيارات، فمن الذي صنع له هذه السيارة وقدمها له؟! إنه العلم الذي قدم خدماته وجمع الثراء الفاحش والثروة ، وبالطبع فهو ليس العلم في بلادي.

إنك لتعجب أشد العجب إذا دخلت مكتبات الجامعات عندنا، وتعجب أكثر عندما تشاهد تكدس رسائل الماجستير والدكتوراة والتي يكاد يضيق عنها المكان، ولك أن تتخيل ما بذله أصحابها من جهد ووقت ونفقات حتى ضاعت الأعمار في سبيل أطنان من الأوراق لم تقدم واقعًا ملموسًا في حياتنا، فلم تستطع أن تحقق لأصحابها ولا للمجتمعات التي نعيش فيها تغييرًا ماديًا أو معنويًا، فهى في وادٍ ومسار التعليم في وادٍ آخر فأنى لهما أن يلتقيا، فلم تتغير سلوكات المجتمع بهذه الرسائل ولن تتغير وهذا حالنا؛ لأن هذه الرسائل قابعة داخل الأدراج ليس لها حظ من فائدة إلا الشهادة التي حصل عليها صاحبها، والتي قد تنفعه في وظيفة يجمع منها فتات بالكاد يكفيه ولا يكفي أسرته، والبعض حصل عليها ولم تغير في حياته شيئًا سوى أنه ضمها إلى أخواتها من الشهادات، وقد يحصل عليها من لا حيلة له فلا يستطيع أن يقدم فكرًا يؤثر من قريب أو بعيد في شخص واحد في محيط دائرته البيئية.

وأيضًا.. أعود فأقول: أنني لا أعيب هؤلاء أو غيرهم حتى لا يتبارى من لا عقل له من الحمقى في صراع أو جدال أنا بمنأى عنه فالكل عندي قامات لهم مني كل التقدير والاحترام، إنما قصدت إلى استجلاء وإظهار الواقع الذي ينبئ أننا نسير في طريق غير صحيح وغير منصف، و أن أوضح جناية التعليم الذي يدفعنا دفعًا تجاه الفشل والفقر، حتى يبدو أن أكثرنا درجات علمية سيعتقد في قرارة نفسه أنه أكثرنا فشلا في حياته العملية، فهل ستوفر له شهاداته من المال ما يكفيه لشراء سيارة كالتي اشتراها الممثل المعروف؟!! أو يستطيع أن يشتري لزوجته هدية كالتي اشتراها المغني أو الإعلامي المعروف؟!، وربما يقضي هذا العالم عمره لا يستطيع أن يوفر لنفسه ثمن الدواء إذا أصابه المرض، ولعله يموت كمدًا عندما يشعر أنه لا يستطيع أن يسعد أولاده، أو يوفر لهم ما يكفي من نفقات الحياة، فأين تكمن المشكلة ؟! وهل هذا يجعلنا نفقد الإيمان بالعلم والتعليم؟!

وفي رأيي المتواضع أن المشكلة تكمن في أنظمة التعليم التي تدربنا بطرق فاشلة وتدفعنا إلى الفقر، في الوقت الذي كان عليها أن تدفعنا إلى الابتكار والاختراع والتصنيع والانتاج، إن طفلًا في دول العالم المتقدمة قد يصمم ويبتكر لعبة أو برنامجًا، ربما يدر عليه دخلًا يعادل ميزانية لأكبر الشركات، ونحن مازلنا نسير في هذا الفشل، وهذا الطريق الذي أثبت فشله مرارًا ونتمسك به كأننا نصر ونتمسك بالفشل لأقصى حد، وكأننا فقدنا كل حواسنا وجُردنا من عقولنا ومات تفكيرنا.

وبالطبع لا ألوم التعليم وحده بل ألوم كل الأنظمة التي قيدت تفكيرنا، وقتلت روح الإبداع والابتكار في أنفسنا ، وأقسم أنني لأتعجب.. أن لدينا آلاف المهندسين الذين يتخرجون كل عام من كليات الهندسة، ولدينا آلاف الصيادلة، وآلاف.. وآلاف.. والكل عند تخرجهم يسعى للوظائف والمكاتب وينتهي عهده ويضيع شبابه، ونظل نستورد الاختراعات والأدوية من الأجنبي بملايين الدولارات وغيرها من احتياجات الحياة، وكأن بلادنا خلت من مؤسسات البحث العلمي، وكأنها خلت من عقول النجباء، وكأننا شعب خلق ليعيش مُستغلًا من كل من حوله.

أخيرًا وليس آخرًا .. أدعو كل مسؤول وأدعو كل عالم، وكل متعلم أن يعيد التفكير في رحلته العلمية ويدرك العمر قبل فوات الأوان.. ويبحث في إعادة تشكيل طرق تفكيره لعل الله يهدينا إلى ما يسمو بالأوطان ويرفع من شأن بلادنا.