الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نهر الوجع


أمام النهر تجلس وتنام وتعيش فى تلك المنطقة، التي تسمى الكابلات، التى يجرى فيها نهر النيل ويوازى شارع رئيسيا فيها. جميلة الملامح رغم عبث الملبس وذبول الوجه ووهن الجسم ولكنها لاتزال تشدك اليها بكل ما فيها من غموض وصمت وابتسامة باهتة لا لون لها ولا طعم ولا هدف. 

أهل المنطقة يعطوها مما أعطاهم الله ويشفقون عليها، عندما جئت أنا إلى هذه المنطقة للعيش هناك حتى أكون قريبة من مكان عملى الجديد المنقولة إليه عن طيب خاطر لا ينسى ماضى حزين حينئذ لفت انتباهى كل ما يتعلق بها وسعيت اليها كى أحدثها واحضرت معى طعاما وشرابا وذهبت إلى؛ حيث صنع لها الطيبين غرفة خشبية على شط النيل حيث اختارت الاقامة لسبب لم اكن اعرفه حينما حللت على هذه المنطقة.

ذهبت إليها أحمل على وجهى ابتسامة وفى قلبى محبة لها لا أدرى ما سببها وقدمت لها ما أعددته لها من حلو الطعام والشراب ولكنها رفضت وابتعدت عنى وجرت إلى حجرتها وأغلقتها وانتظرت طويلا علها تعود ولكنها لم تعد وكل ما فعلته أنها من حين لآخر تفتح النافذة وتنظر ناحيتى وتغلقها مرة أخرى، أعيانى الانتظار فقررت ترك الطعام والشراب أمام حجرتها والعودة إلى شقتى التى استأجرتها فى بيت مقابل لها ومطلا على نهر النيل الذى تعيش هى فيه وليس على شطه فقد لاحظت انها دائمة النظر اليه بشوق ولهفة غريبتين ، صعدت الى شقتى ونظرت من نافذتى وأنا حريصة الا ترانى او ترى حتى ظلى وبالفعل حدث ما توقعته فقد خرجت وأخذت الطعام ودخلت به.

انتهى هذا اليوم وتلاه أيام وأنا أقوم بنفس السلوك معها وهى ترد بنفس الطريقة، وبعد ما يقرب من شهر جلست بجوارى ومدت يدها وأكلت ووضعت طعاما فى فمى وضحكنا سويا وزادها الضحك جمالا وأظهر عمرها، وأوضح أنها لازالت شابة ولكن الحزن يظهرها أكبر بكثير من عمرها.

فى يوم جلست بجوارى وتكلمت وكان هذا لأول مرة منذ أن التقينا. وأشارت إلى النيل وقالت ده وجع .. فالتفت إليها وحسبت أنها من الصعيد وتنطق القاف جيم فقلت لها مين اللى وقع ؟ فقالت بسرعة لا ده وجع؛ يعنى الم.. وصمتت وبكت بكاء لم اسمعه فى عمرى الذى اقترب من نهايته كان بكاؤها يحمل كل أشكال وأنواع العذاب فربت على رأسها ومسحت دمعها فارتمت فى حضنى وقالت أنا قاعدة مستنياهم يرجعولى، وسألتها مين همه ؟ فقالت ولادى. 

قلت همه مسافرين ؟ قالت لا أبوهم رماهم هنا وأنا معرفتش أجيبهم من النهر ده بس همه هييجوا وانا مستنياهم عشان اخدهم ونرجع نعيش مع بعض من تانى.. وعاودت البكاء ووجدتنى اشاركها فيه وانا لااعرف اية تفاصيل ؛ فقالت لى انتى كمان ولادك فى النيل ؟ فقلت لها انا لم اتزوج وبالتالى ليس لدى اولاد ، قالت لى كويس انك متجوزتيش كان هيرميلك ولادك فى الميه؛ وسألتنى انتى بتعرفى تعومى ؟ لو بتعرفى هتجيبيهم تانى لو مبتعرفيش هتنزلى وراهم بس الناس هيطلعوكى وتفضلى قاعدة جنبى مستنياهم ، واستطردت وقالت اصل همه اكيد مش هيهون عليهم انك تعيشى من غيرهم ولازم هيرجعوا عشان تعيشوا مع بعض، تكتت وهى تنتحب وقلبى يرتجف بين ضلوعى وحاولت ان اخذها معى لتبيت عندى ولكنها رفضت وهى تقول مقدرش ابعد افرضى خرجوا من الميه ومالقونيش يعملوا ايه بأه ؟ تركتها وعدت ولم انم ليلى وفى الصباح سألت عنهاو عن حكايتها فقال لى الجيران انها كانت من اجمل الفتيات وكانت ابنة وحيدة لاسرة فقيرة وكانوا يصنعون الشاى للجالسين على النيل وايضا يبيعون الترمس والحلابسة وابنتهم كل عالمهم وكبرت البنت وجاءها الخطاب وبالطبع كلهم من نفس المستوى وكانت ترفض لانها لاتريد الزواج واهلها كانوا ينفذون لها ماتريد وفى يوم وقف امامهم شاب بعربة فارهة وطلب شاى وترمس واحضرته له وفتن بها واصبح يأتى كل يوم وتعلق قلبه بها وطلبها من ابويها شريطة ان يرضوا به ولايطلبوا حضور اهله لانهم لن يوافقوا على هذه الزيجة لتباين المستوى المعيشى بينهما وتحت ضغط ابنتهم وتعلقها بالشاب وافقت الاسرة وفى فرح بهيج زفت اليه وتزوجا فى واحدة من الشقق التى فى هذا البيت وبالطبع اخفى زواجه عن اهله ؛ وكان الزوج محبا لها غيورا عليها وكريما معها ومع ابويها الى ابعد الحدود انجبت منه ثلاثة ابناء ولدان وبنت وكانت حياتهما مثالا للسعادة والهناء الى ان عرف اهله وتحولت حياتهما الى نكد ومشاكل لاتنتهى فابواه يصران على ان يطلقها ويأخذ ابناءه ويتركها ويعيش معهم وهو متمسك بها ، ويمارس اهله كل انواع الضغوط عليه ليتركها فيحرمانه من العمل فى مصنع العائلة ويضيقان عليه فى كل الاماكن وياخذوا كل مالديه من عربة واموال حتى ملابسه اخذها ابيه امام الكل وقال له خليها تجيبلك بدالهم .. 

يسقط الزوج مريضا من كثرة الالم من معاملة اهله ومن بحثه ليل نهار عن عمل جديد الا ان ابواه سدا امامه كل الطرق من خلال معارفهم واجبارهم على رفض توظيفه ، تحاول هى ان تخفف عنه وتعمل كما كان يعمل ابواها اللذين من رحمة ربهما انهما توفيا قبل هذه المآسى . يشتد به المرض ويشتد معه تعبها والمها وحزنها وفى يوم وهو فى شدة المه يطلب منها ان تأخذه وتجلس به ومعه ومع الاولاد على النيل بالقرب من فرشتها التى تبيع من خلالها الشاى والترمس وحمص الشام فتسعد هى لانه سيغادر فراشه الذى لم يفارقه منذ مايقرب العام ويستند عليها وينزل معها ويعبروا الطريق ويجلسوا وهى سعيدة به ، ويحكون انه قال لها سامحينى ياحبيبتى ويطلب منها اعداد كوب من الشاى فتذهب وتسمع صوت وقع شىء فى النيل فتنظر الى حيث مصدر الصوت فلا تجد شىء ولكنها تسمع صوت طفل يصرخ واخر يناديها واخرى تطلب النجاة والمساعدة فتجرى وتبحث عن زوجها فلاتجده ولاتجد ابناءها وترى شعر ابنتها يطفو فترمى نفسها وتنادى على زوجها وابناءها وهى تطفو وتغرق ولاتدرى ماذا حدث فقد انقذها اهل الخير واتوا بها الى شاطىء الحياة بينما ابتلع النهر زوجها وابناءها الثلاثة لتعلم بعد ذلك انه عندما طلب منها السماح كان يعد العدة لكى ينهى حياته وحياة ابناءها ويتركها وحيدة حزينة لانه فكر فقط فى نفسه وفى راحة ابناءه من الفقر والعوز والحاجة وربما استبداد اهله وسطوتهم .. وعندما فاقت فقدت الرغبة فى كل شىء وذهب عقلها ولازمت المكان على امل ان يعيد اليها نهر الوجع كما اسمته اولادها ..
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط