الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

دنيا طارق تكتب: حافلة القدر

صدى البلد

كل يوم على الحال ذاته؛ يقضي أغلب ساعات يومه وهو يستمع لحكايات الركاب، يضحك عليها مرة ويعبس مرات، لم يمل مما يروّنه ولم يكن يتوقف عن الانتباه لكلامهم ونظراتهم، يتكرر أمامه مشهد الكمساري الذي لا يهمه سوى أجرته، مهما كانت حالة الراكب المهم أن أجرته معه وسيمنحه إياها وإن لم يكن فيصيبه الكثير من السب واللعن وربما يلقيه من السيارة وقد تدهسه سيارة أخرى لأنه ليس معه بضعة جنيهات.

في يوم كئيب تركض الناس لتركب وهم يحلمون بالوصول لبيتهم للراحة مثله، يرى من بينهم صبى يبدو عليه إنهاك اليوم يمنح الأجرة للكمساري فتسمع صوته يعلو بأن الأموال ليست بحالتها الكاملة فيخبره أن هذا ما تبقى لديه بحزن وخجل فيأمره بالنزول، ليستمر في سيره الذي رافقه منذ بداية اليوم وهو يبحث عن عمل لكنه يُرفض لصغر سنه، يعود لأمه ليخبرها أنه عاد مثلما ذهب.

وسيدة تحمل ابنتها النحيفة ذات العشرة أعوام تقريبًا، فأجلستها بجوارها فغاصت في نوم عميق في مساحة لا تكفي حقيبة صغيرة، متشبثة بأمها ويبدو أن اليوم كان مؤلمًا لهن أيضًا بعد أن قضوا النهار كله في مشفى حكومي كأيام كثيرة يقضونها منتظرين دورهم لتتم ابنتها جلستها العلاجية، فيأمرها الكمساري بأن تحمل ابنتها أو تدفع أجرة لشخص آخر فحملتها لتجيبه بدون كلمات تجنبًا ليكون هذا سبب حرمانهم من العشاء.

يبدو أن هذا الكمساري صفعته الحياة كثيرًا وعلمته معنى القسوة وكيف يقسو، ليت الحياة تقسو على أحد بمفرده لكنها تقسو على أحدنا فتشب بداخله روح الانتقام التي قد تجعله يجرح قلوبًا لا حيلة لها.

وعجوز يحمل حقائب تبدو أنها تحوي بداخلها خزين البيت، لكن قدماه تفلت منه ولا يتمكن من الوقوف بثبات مع تعرجات الطريق، فيقف له شاب بقدم مكسورة وعكاز ليجلس مكانه، لا تعلم أيهما أحق بالجلوس لكن مؤكد أن الاثنين لا يستحقوا الوقوف، ويبقى العجوز يتلفت حوله حتى يتمكن ذلك الشاب من الجلوس ثانية.

وسيدة مسنة لكنها جميلة بشكل ملحوظ، الرجال يتخبطون بها فتعلو بصوتها لتخبرهم أنها تجاوزت الستين علّهم يتوقفون عما يفعلون، الجميع ينصدم من كونها في هذا العمر لكنها محتفظة بجمالها وهندمتها، أصبحوا يتساءلون عن سبب هذا الجمال رغم الكبر، لكنهم لا يعلمون قدر عذابها؛ منذ عشرة أعوام اتهم ابنها الوحيد أنه يشارك في تداول المخدرات، كانت واقعة لا تصدق، صديقه ابن رجل من أحد أصحاب النفوذ في البلد هو الذي كان يجب أن يكون مسجونًا لكنه سُجن بدلًا منه بأمر من والد رفيقه هذا، من يوم سجنه الأول وهي تذهب له كل أسبوع رغم كبرها وهي راضية بما حدث، ليس لديها حيلة لتفعل من أجله شيئًا سوى ذلك، تراه يكبر سنين وسنين وشبابه يموت بداخله وشكله يشيب وهو مسجون دون جرم، لكن ربما رضاها وصبرها جعلاها مازالت جميلة هكذا، روحها تغطي وجهها.

قطع تفكيره بالأم وابنتها والكمساري وقسوته والفتى والعجوز والأعرج والعجوز الجميلة، صوت فتاة تبكي وبجوارها صديقتها تواسيها، يسمع صوتهن من الخلف، كان واضحًا للجميع، كادت أنفاسها تتوقف من كثرة البكاء ورفيقتها تحاول تهدئتها وتطلب منها أن تخبرها بما حدث لتجدان حلًا بدلًا من البكاء.

انتابه الفضول، وركز انتباهه في حوارهن حين أجابت الباكية بسؤال:
• لِمَ الآباء يمنعون أبناءهم من الزواج؟
فسألتها متعجبة:
• يمنعون!؟
• نعم.. ما مشكلتهم في أن نتزوج من نحب.. لماذا يعتقدونه جريمة؟
• أنا لا أفهم شيئًا.. ألم تكوني دومًا رافضة الزواج!.. أو على الأقل تؤجلينه لحين تنتهين من دراستك
• هذه هي المشكلة، لم أكن أفكر بالموضوع ولا أريده من الأساس، لكن أمي ظلت تلح أن أرى على الأقل من يتقدمون لخطبتي لا لأرفض من أجل الرفض، جارتنا أتت لأمي تخبرها أن هناك عريسا مناسبا جدًا لي وهو يقربها أيضًا، فوافقت لأرضيها، وقابلته والغريب أنني أُعجبت به وبشخصيته، شعرت أنه يشبهني، يحمل صفات كثيرة من التي تمنيتها في زوجي المستقبلي مما حفزني لأقابله أكثر من مرة وأخبرت أمي أنني موافقة، أبي اعترض فجأة بعد ما طلب منه صديقه أنه يريد أن يزورنا هو وابنه لنتعارف ومن ثم نتم الخطبة لثقته في تربية أبي وما شابه
• أهذا يعني أن والدك رفض من أجل صديقه وابنه؟
• نعم لكنه افتعل عيوبًا واهية بالشخص الذي أحببته، عمله، سنه، دراسته لتنتهي علاقتي به، رغم موافقتهم على كل هذا من قبل لكن كل هذه الأسباب كانت قناعًا للسبب الحقيقي وهو ألّا يخسر صديقه ولم يفكر بأمري، ماذا عني وعنه؟ لِمَ تركتمونا نحب بعضنا ونرسم أحلامًا و آمالًا ومستقبلًا يتحقق فيه كل هذا! وصدرت أوامر عُليا بانتهاء كل شيء ولا يمكننا حتى الدفاع عن حُبنا، الحب الذي خُلق برغبة منهم والآن يُدفن بإرادتهم أيضًا، كأننا دُمى يتحكمان بها.
• وماذا ستفعلين ؟
• لا أعرف، لولا الحلال والحرام لم نكن ننفذ قرارات آبائنا هكذا.
• أتحبينه حقًا؟
• أعشقه، يؤلمني أن أراه يحاول بكل طاقته دون كلل أو ملل، لم أرَ حبًا كالذي رأيته في عينه لي.
• ربما الحل الوحيد في أن يتراجع صديق والدك عن قراره.

بدأت تجفف دموعها بعد أن منحتها رفيقتها ماء لتبلل فاها وتهدأ وأردفت:
• فقدت القدرة على التفكير لاتخاذ أي قرار وسيطرت حيرتي عليّ لا أعلم إذا كان هذا اختبار وعليّ أن أثابر لاجتيازه أم أنها علامة لأكف عن المحاولة، كل ما أعلمه أنني أريده هو ولا أريد غيره.

ظل يفكر حتى بعد أن نزلت الفتاة وصديقتها هو مازال في طريقه، ربما الزواج سنة الحياة لكن الزواج بمن لا نحب ليس بسنة، ما الذي يدفعنا أن نتزوج إكراهًا بمن لا نحب ومن نعشقه موجود، وربما أيضًا قرار والده صحيح لكونهم أكثر خبرة في الحياة لكنه لن يقبل أن يقسو على أحد لقسوة الحياة عليه لن يقبل أن يشعر طول حياته أنه هو السبب. فكر في كلام رفيقتها الذي طمأنتها به بأن ما كتب لها ستراه قبل أن يقطع وصولهما تركيزه في حوارهما.
فكر أن يعود إلى المكان ذاته الذي نزلت فيه، كان بداخله رغبة في أن يتحدث إليها لكنه لم يكن يمتلك الشجاعة لهذا، ظل يلوم نفسه على خوفه وتردده لكن شيئًا ما دفعه فجأة، فعاد إلى حيث نزلت وهو يتمنى من داخله أن يجد، يعلم أنها ستذهل حين تسمعه لكن علّهما ينهون الأمر، وصل ووجد رفيقتها تجلس بمفردها على الجهة الأخرى تغطي وجهها بكفيها، كيف كانت تواسي رفيقتها هكذا والآن هي بحالتها هذه، فهي تبكي لكون لا أحد يفكر بها، ولا أحد يهتم بشأنها، هي تفكر في إرضاء ومواساة الكل ولكن الكل يتركها، تخشى أن تكره نفسها من كثرة الهموم ومراعاة الكل وتعذيب نفسها، إنها تتجنب كل ما يؤلمها لإسعادهم، هي فقط تصمد من أجل من تحبهم ..لا تريد أن تسقط فيسقطون تسلسلًا بعدها، تعلم أنها العكاز الوحيد الذي سيستند كل منهم عليه، كل ما تتمناه أن تبقى عكازًا من حديد لا من قش.

وفجأة تتوقف عن التفكير حين سمعت صوت الصراخ والاصطدام، والناس تركض لكن لم يصبح لركضهم قيمة، اقتربت لتشاهد عن قرب كالبقية فوجدت شابًا شعرت أنها رأته من قبل لكنها لم تتذكر من هو وأين.

كان هو، توقع أن الفتاة ستتعجب من سماعه لكنه لم يكن يعلم أن رفيقتها ستصعق من نهايته هذه، فهو لم يكن يتوقع أن حافلة هي التي تنهي أمره بعد أن بات يراقب كل من يركبها كل يوم.

وبعد يومين ذهبت لصديقتها تلك التي كانت تبكي في الحافلة فأخبرتها أن والدها قد أخبرها أن العريس قد مات.. صدمته حافلة -على الرغم من أنه كان لديه الأجرة-!