الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ليس الوقود فقط.. احتجاجات السترات الصفراء تكشف ظاهرة اجتماعية خطيرة تهدد الغرب.. غياب الثقة بمؤسسات الدولة والمجتمع المدني يعيد السياسة إلى الشارع.. وفقدان الأمان الاقتصادي يهز استقرار أوروبا

احتجاجات السترات
احتجاجات السترات الصفراء

  • احتجاجات السترات الصفراء تتسع لتشمل قضايا الرواتب والضرائب
  • انفجار العنف في أحياء باريس الراقية يكشف حجم الخوف من الهبوط في السلم الاجتماعي
  • ماكرون يدفع ثمن انحيازاته السياسية ومبادئ حملته الانتخابية
  • شعبية الرئيس الفرنسي في أدنى مستوياتها منذ توليه المنصب

ربما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يأمل أن ينزع قراره تجميد رفع أسعار الوقود فتيل الاحتجاجات العنيفة التي تشهدها بلاده منذ أسابيع، لكن استمرار الاحتجاجات كشف أن قراره ذاك جاء متأخرًا أكثر من اللازم، وفوق ذلك فلم تعد أسعار الوقود هي موضوع الاحتجاجات الوحيد.

وقالت صحيفة "نيويورك تايمز" إن المحتجين وسعوا نطاق مطالبهم إلى خفض الضرائب وزيادة الرواتب ومطالب تتعلق بتحسين مستويات المعيشة بشكل عام، بحيث باتت الحكومة الفرنسية تلهث عاجزة عن اللحاق بمطالب المحتجين وتلبيتها.

وأضافت الصحيفة أن احتجاجات فرنسا تشبه من حيث الشكل احتجاجات أنصار تيار اليمين الشعبوي الصاعد في بقاع عدة من الغرب، مثل إيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة، وبلدان وسط أوروبا.

لكن ما يميز الاحتجاجات الفرنسية جوهريًا عن سواها من احتجاجات اليمين الشعبوي أنها تعبر عن كفران بالمؤسسات القائمة، سواء كانت الحكومات أم الأحزاب أم الاتحادات والنقابات، التي ثبت قصورها وعجزها عن التعبير عن المظالم وغياب الأمان الاقتصادي، الذي يقض مضاجع قطاع كبير من الطبقة العاملة حتى في أكثر بلدان الغرب تقدمًا ورفاهية.

وأوضحت الصحيفة أن احتجاجات السترات الصفراء ليست مرتبطة بحزب معين على غرار احتجاجات اليمين الشعبوي، ولا هي تركز على قضايا الهجرة والأجانب، أو تعبر عن تعصب وطني من أي نوع.

وتابعت أن احتجاجات السترات الصفراء هي اعتراض عفوي على أوضاع وسياسات اقتصادية بالأساس ولا يتبع قيادة سياسية، وليس بلا دلالة أن أعمال العنف في باريس انفجرت في شوارع الأحياء الراقية، مثل الشانزليزيه وريفولي، حيث أفخم المتاجر التي تعرض أغلى السلع، والتي تعرضت للتكسير.

وكشفت احتجاجات السترات الصفراء مدى فقدان الجماهير الفرنسية ثقتها بمؤسسات المجتمع المدني، وسيادة انطباع بأن تلك المؤسسات انحرفت عن أهدافها الأصلية وصارت تعمل ضد مصالح المواطنين، وهذه النقطة بالتحديد هي التي تصعّب على الحكومة الفرنسية التفاهم مع المحتجين، ففي حالات مماثلة تلجأ الحكومة للتفاهم مع مؤسسات المجتمع المدني كممثل عن المحتجين، لكن أصحاب السترات الصفراء يرفضون وساطة أي طرف بينهم وبين الحكومة، رغم مساعي رموز بارزة من اليمين واليسار لركوب موجة الاحتجاجات واختطاف زعامتها.

ونقلت الصحيفة عن رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق إنريكو ليتا أنها بالرغم من الاختلافات الجوهرية لاحتجاجات السترات الصفراء في فرنسا عن الاحتجاجات يمينية الصبغة في إيطاليا وبريطانيا، فإنها تعبر عن الغضب والخوف من نفس الشيء، وهو انحدار أوضاع طبقات اجتماعية كانت تشعر بالأمان الاقتصادي نسبيًا حتى وقت قريب.

وقال المؤرخ الإيطالي مارك لازار إن الاحتجاج على الأوضاع الاجنماعية والاقتصادية ليس أمرًا جديدًا بحد ذاته، وهو ملمح شائع في العديد من بلاد الغرب، لكن الجديد الذي يجب أن ينتبه إليه المسئولون والسياسيون هو مدى ما تكشف عنه الاحتجاجات من غياب الثقة في المؤسسات، التي فشلت في توفير الأمان الاقتصادي للطبقات العاملة.

المفارقة الأخرى اللافتة للنظر هي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه أحد أنشط الساسة في حركة رفض ونبذ الأحزاب السياسية القائمة، التي توارثت الحكم في فرنسا لخمسة عقود على الأقل، بل إن بيان حملته الانتخابية حمل اسم "الثورة"، تعبيرًا عن نوع من الازدراء للأحزاب القديمة، أي أن ماكرون عمليًا ساهم في تأسيس حركة إضعاف المؤسسات التي انفجرت في وجهه الآن.

جدير بالذكر أن وصول ماكرون إلى رئاسة فرنسا لم يكن عن شعبية كاسحة، فهو لم يحصل على أكثر من 24% في جولة التصويت الأولى، وعادت هشاشة شعبيته لتطارده الآن، حيث كشفت استطلاعات رأي أُجريت مؤخرًا أن 80% من الفرنسيين لا يثقون به.

ماكرون الذي كان وزيرا للاقتصاد في حكومة الرئيس فرانسوا هولاند في الفترة بين 2014 و2016، اعترف بعد الأسبوع الثاني من الاحتجاجات بوجود مطالب شعبية مشروعة فعليا وأنه استمع للأصوات المتضررة من رفع أسعار الوقود وارتفاع أسعار المعيشة، لكنه حرص على تسليط الضوء على العنف التي شهدته الاحتجاجات وإدانة مرتكبي أعمال الشغب واصفا إياهم بـ"الفوضويين"، وبلغت الخسائر في إيرادات المراكز التجارية بسبب احتجاجات حركة "السترات الصفراء" وأعمال العنف والتخريب المرافقة لها في يومي 17 و24 نوفمبر على التوالي نسبتي 35 و18%.

ويقول محللون إن الحركة تحولت بالفعل إلى انتفاضة شعبية انضم إليها آلاف الغاضبين من الحرمان الاجتماعي وإهمال قطاع الصحة وانخفاض القدرة الشرائية، إذ يقول الصحفي المتخصص في الشئون الفرنسية جون ليشفيلد إن البلاد لم تشهد أعمال عنف بهذا الحجم منذ انتفاضة الطلبة والعمال في 1968.