الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

تراثنا الضائع


في مصر وقبل عقود ليست ببعيدة كانت الأصوات تصدح من المنازل تخترق "التعريشة البوص" أو "الجريد" مؤذنة باقتراب فرح أحد أبنائها، وفي الغيطان كانت أصوات الصبيان والفتيات تنافس تغريد الطيور وهم يغنون ابتهاجًا بموسم القطن، وفي الشوارع كانت نغمات الربابة تسبق صوت المُغني لحكي قصة بطل شعبي، وفي العاصمة تزود عمال التراحيل بما نظمه أسلافهم من كلمات تعينهم على غربتهم، في مصر كنز تراثي لن تجده في دولة أخرى غيرها، كنز يضيع وأبطاله يرحلون عن عالمنا، كنز يندثر بتحريف الكلمات ونسيان سطور كاملة من أغنية صغيرة.

في الأفراح وفي الحقول وفي الموالد شاهدت واستمعت لتلك الأغاني، في ليالي "الحنة" امرأة واحدة كانت تدق على "الطبلة" ومن خلفها تردد الفتيات دون تعب أو ملل، وفي "جمع القطن" يغني صبي فيردد خلفه الباقون فترد عليه فتاة تتبعها الأخريات، كان الأمر أشبه بمبارزة فنية تنتهي بغروب الشمس، وفي الليلة الكبيرة للمولد كان الغناء على "كل شكل ولون" هذا يحكي على الربابة، وذاك يضبط إيقاعه على "الدف"، وآخرون يضربون حلقة حول شخص ما، يصفقون وهم جلوس ويكملون مقاطع أغنية فلكلورية خلف مركز الدائرة عن الزواج أو عن "المحبوبة" أو عن ضيق العيش.

في مصر تراث من الغناء الفلكلوري ضخم، تعُج به محافظات مصر، لدى كل محافظة طابع خاص بأغانيها، فمثلًا ما تسمعه في الفيوم لن تسمعه نصًا في الشرقية، وما تسمعه في السويس لن تسمعه كما هو في الإسماعيلية رغم أنهما أقرب إلى بعضهما البعض في الطابع الغنائي، ستختلف الكلمات وربما اللحن لكن يظل المعنى قريب وأحيانًا واحد.

لكن ماذا لو بحثت عبر شبكة الإنترنت أو موقع الفيديوهات "يوتيوب" عن تراث مصر الفلكلوري؟؟ صدقني ستضيع ساعات بحثك هباءً ولن تجد سوى فيديوهات مقتضبة لبعض الأغاني، بعضها تم تصويره بالهواتف المحمولة والآخر لم يهتم مصوره بقيمة ما تُسجله كاميرته؛ فخرج مشوهًا وستكتشف أن مصر لا تملك أرشيفًا حقيقيًا يضم أغاني تاريخها الفلكلوري وتراثها الشعبي.

الكارثة الأكبر من وجهة نظري أن أبطال الفلكلور الشعبي ممن كانوا يتغنون به في محافظات مصر المختلفة –رجالًا ونساء- رحل منهم الكثيرون، والباقون جالسون في منازلهم ينتظرون قضاء الله، حتى من تعلموا على أيديهم امتهنوا مهنًا أخرى وبينهم من نسى الكلمات من الأساس في رحلة البحث عن "لقمة العيش".

السؤال الآن لماذا لا تُكلف الدولة جهة ما لجمع التراث الشعبي والفلكلور المصري في صورة أرشيف يحمل بين طياته كل محافظة على حدة وما تشتهر به من أغاني تراثية يتم جمعها مُصورة ومسجلة بتقنية عالية نستفيد منها نحن وتستفيد منها الأجيال القادمة ويكون محتواها متاحًا للجميع عبر شبكة الإنترنت وموقع الفيديوهات يوتيوب.

لا أعتقد أن الأمر صعب ، ولو قررت الدولة فعل ذلك فخلال عام واحد ستُجمع تلك الثروة ، بطريقة تليق بمصر وعراقتها وتاريخ أبنائها.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط