الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد زيدان يكتب: عش عظيمًا

د. أحمد زيدان
د. أحمد زيدان

دفعني حنين ونبض شوق جارف للعودة إلى الكتابة بعد انقطاع، حنين لم أتمالك معه مواصلة الجفاء بين يدي وقلمي، فأطلقت للشجون العنان مداعبة بنات أفكاري المتوسدة بصدمات الحياة تقلب ظواهرها وتفلسف أحوالها وترسم خواطر تعهدتني منذ أمد بالهم وانشغال الفكر فألمت بأهداب العيون، فظللت أساهره حتى ملني ومللته وضاق كل منا بصاحبه فلم أجد سبيلًا للانفكاك عنه سوى الكتابة.

فالحياة سفينة تموج بنا وتتمايل في لجة بحر متلاطم بأمواج من المشاكل والأحداث المتلاحقة، والقيم والمبادئ شراعها التي تستقيم به وتتوازن، و كل منا ملاح سفينته تقوده مبادئه وقناعاته، النجاة في سلامتها وإن كان في ظاهرها الهلكة.

ففي ثنايا النفس تختلجنا هواجس وأفكار متناقضة ومتصارعة، اختلاجًا قد تنحرف به بوصلة الحياة، تضح جليًا في المواقف والتحديات الحياتية شبه اليومية والتي تضعك دومًا بين رحى خيارين إما الثبات على المبدأ والاعتصام به أو الجنوح عنه لتحقيق مكاسب آنية شخصية نابعة من اختلال منظومة التنشئة الدينية والاجتماعية.

فالمبدأ الذي تعيش به ما هو إلا اعتقاد و قناعة، موقف و رؤيا، في جوهره كل لا يتجزأ وفي مضمونه جزء في فلك منظومة الأخلاق، لا تكتمل هذه المنظومة إلا بتحقيقه، وتحقيقه يكون بتحويله من مرحلة التنظير إلى الممارسة، أي الخروج من قوقعة التفكير إلى آفاق السلوك المجتمعي القويم، من هنا يمكن القول بأن المبدأ هو منهج أخلاقي يرسمه الإنسان لنفسه ويسير وفقه و لا يحيد عنه مهما كانت غائلة الرياح وشدتها.

أولئك الذين قال عنهم عبدالرحمن الكواكبى: «ما بال هذا الزمان يضن علينا برجال ينبهون الناس، ويرفعون الالتباس، ويفكرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون»

وصدق الرافعي حين قال "لو سألت أن أُجمل فلسفة الدين الإسلامي كلها في لفظين، لقلت إنها ثبات الأخلاق، ولو سُأل أكبر فلاسفة الدنيا أن يوجز علاج الإنسانية لما زاد على القول : إنه ثبات الأخلاق "

فالأخلاق هي لغة السجية والطبع والمروءة والدين محددة بضوابط الشرع، مستقرة ومستمرة استمرار الحياة، فيعرفها ابن مسكويه بأنها "حال للنفس داعية إلى أفعالها من غير فكر وروية"، لذلك كان من دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «... واهدِني لأحسنِ الأخلاق، لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرِفْ عني سيِّئَها، لا يصرِفُ عني سيِّئها إلا أنت» (رواه مسلم).

فالقيم والمبادئ السليمة هي الحصن الحصين في ظل مجتمع أصاب العوار الأخلاقي أطنابه، ونهشت الصراعات والمشاحنات وشائجه و أوصاله، أصبحت فيه الحقوق منتهكة مع تبدل بوصلة المصالح وتغير أوجه المنافع، فحين يقع الفساد في المتواتر من قيم وأخلاق بين الناس، ويلتوي ما كان مستقيمًا، ويضرب الضمير الاجتماعي الوهن، وتتبدل أخلاق الرجال، وتختل المقادير والأوزان. فيظهر الذهب والنحاس سيان، وتتناكر الوجوه، وتستوحش النفوس، فاعلم أن ثبات الأخلاق هي سبيل النجاة و لا يوحشنك دربه وإن قل سالكيه.

و ما ظهرت تلك الآفات في المجتمع ومؤسساته إلا بسيادة ثقافة التسلط وتغليب الأهواء والمصالح والانقياد لها بدلًا من تحييدها، وتسيير الأمور بغير موازين العدالة من دون وجل ولا حياء، فما كان مآل ذلك إلا التناحر والتنافر والتباغض وإثارة الفتن والقلاقل، وإقصاء أهل المروءة والكفاءة، وسيادة أرباب الشناءة والدناءة.

في النهاية، لا تكن كملاح تائه فأنت وحدك من يملك بوصلة حياتك وحرية الاختيار ، فإما أن تفقد البوصلة قدرتها على تحديد الاتجاهات وتصبح كل الاتجاهات سواء، أو الثبات والصمود حتى بلوغ مرسى الأمان، فكن عظيمًا في عين نفسك حتى لا يكسرك في الحياة شئ، وكن عظيمًا في الفعل كما كنت عظيمًا في الفكرة.