الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

رضا نايل يكتب : باقة ورد حمراء

الكاتب الصحفي رضا
الكاتب الصحفي رضا نايل

لا تزال بعض الكدمات بادية أسفل عيني وفي شفتي وجبهتي، رأيتها وأنا أغسل وجهي، فابتسمت في وجوم، فعما قريب ستختفي، وخرجت من الحمام، ووقفت عاريا أمام المرآة في غرفة النوم، وتلك الابتسامة الواجمة التي مازالت عالقة بشفتي تستجدي دموعا من عيني، وأنا أتحسس ضلوعي المكسورة من فوق الجبيرة، فاتجهت نحو الشرفة، وأنا لازلت عاريا، فلم أعد أشعر بالخجل من أن يراني الآخرون عاريا، فتحت باب الشرفة، فتدفق شلال من الهواء البارد بقوة فلسع جسدي العاري، فأغلقته مسرعا، والهواء يقاومني حتى شعرت بألم في ضلوعي، ما كاد يهدأ حتى بدأ ألم أكبر وأقوى مع نوبة سعال حادة، فالجو في الخارج يبدو شديد البرودة، والرياح تثير الغبار وتحمل الأوراق الممزقة والأكياس البلاستيك من الشارع، فتتصاعد لأعلى في شكل حلزوني، وكل شئ في الأفق الممتد خلف زجاج الشرفة قد صار رمادي اللون، فالشمس غائبة في السماء المكفهرة التي تنذر بسقوط أمطار غزيرة، فأغمضت عيني، وأنا أسترجع في هذا الطقس الرمادي البارد للمرة الأولى ما حدث، وتمنيت لو أفتحها فأجدني كنت أحلم، فلم أكن متأكدا أن ما حدث لي قد حدث بالفعل، فهناك أشياء تقع لا يمكن أبدا للإنسان أن يؤكد وقوعها إلا إذا بحث عنها فوجدها في مكان ما بذاكرته..
فما إن خرجت من محطة مترو التحرير في اتجاه المجمع، حتى اصطدم بي أحدهم، وإذ باثنين آخرين يلتفان في نفس اللحظة حولي، ثم قال الذي أمامي: 
• تفضل معنا بهدوء.
لم يعطني الآخران أي فرصة للإجابة، وقبضا على ذراعي، ودفعاني نحو سيارة كانت تنتظر عند مسجد عمر مكرم، وتلك المفاجأة جعلت وجهي خاليا من أي تعبير، ورأسي جوفاء فارغة من أي تفكير، فأحسست بدوار، وأغلقت نصف عيني محدقا، فرأيت السيارة تتجه ناحية ميدان سيمون بوليفار، ومنه إلى شارع يوسف الجندي خلف المجمع، ثم شارع الشيخ ريحان، وبعد قليل رأيت بنصف عيني من زجاج السيارة الأمامي بوابة حديدية كبيرة، ما كدنا نقف أمامها حتى فتحت أبوابها، وبعد ثوانٍ من عبورها غاب ضوء النهار، وأحسست أننا نسير في طريق حلزوني متجهين لأسفل، فقد كنت أتمايل بين الفنية والأخرى يمينا ويسارا نحو الجالسين إلى جواري، حتى وصلنا لمكان متسع شبه مظلم يبدو أنه مرأب للسيارات، فقد رأيت في ضوء السيارة الممتد كقمع طويل عددا من السيارات، ثم وكزني أحدهم لأنزل، بينما فتح الآخر الباب، فأمسكا بي ودفعاني نحو ممر ضيق طويل، الضوء في أوله خافت جدا، وكلما اقتربنا من نهايته زاد بشكل تدريجي، حتى وقفنا أمام الباب الوحيد في الممر، وعنده يتدلى المصباح.
فتح الذي في الأمام الباب، ودفعني الآخران كالعادة إلى الداخل ووقفوا لدى الباب.
كانت الحجرة ضيقة وخالية من أي شئ، وشبه مظلمة حيث يصلها شعاع واهن من المصباح الذي يجاهد ضوؤه المتعب ليضئ الحجرة والممر.
وبعدها مباشرة سمعت وقع خطوات مسرعة تقترب وتقترب، وإذ بصاحبها واقف عند الباب ممسكا بمقبضه، وظله ينعكس في الضوء القادم من الخلف وينتهي على حذائي، ثم تقدم نحوي ببطء وكأنه حيوان مفترس يستعد للانقضاض على فريسته، ومع كل خطوة يصعد ظله على جسدي حتى أغرقني، ورفع يده التي بدى ظلها على الحائط كبيرا وكأنها لوحش أسطوري، وصفعني بكل قوة وهو يقول: 
• يا أهلا بالرومانسي.
لم أشعر بألم الضرب أو الإهانة، فقد حالت الدهشة بيني وبين الألمين عندما سمعته يقول: "رومانسي"..وقلت في نفسي.
• لابد أنه اسمي الحركي ؟!
أشار بإصبعه، فدخل الثلاثة الذين أمسكوا بي مسرعين، واجتازوا المسافة في خطوتين، والتفوا حولي، فازدحمت الغرفة بأجسادهم القوية الممشوقة، وغاب الضوء وراء قاماتهم الطويلة، ثم قال:
• فتشوه..لا قلعوه، ونفتش على راحتنا.
أخذوا ملابسي وراحوا يفتشونها أسفل المصباح.
وحبات العرق البارد تتقاطر منزلقة على ظهري العاري، وعيناي تذرفان دموعا من غير بكاء، ثم ارتجفت، ورأسي الجوفاء تمتلئ بالأفكار التي يموج بعضها ببعض، حول وجودي الذي انتهى، فعما قريب سأتبخر من ذاكرة كل من يعرفني، بعد تعذيب بإطفاء السجائر في جسدي العاري، وإدخال عصى غليظة في مؤخرتي.
أسندت ظهري للحائط خلفي، وقدماي ملتصقتان، محاولا إدراك الأرض بيدي لأجلس، فأحسست بالبول الساخن يسيل على فخدي.
ثم سمعته يقول.. وأنا متكور على جنبي، وقبضتاي مضمومتان أسفل ذقني ليحملا رأسي التي أصبحت ثقيلة كجبل، رغم أنها ممتلئة بالهراء حول الحياة وأنا على وشك الموت ، ومرفقاي يلامسان ركبتي المُلتصقتين ببطني:
• قم يا حيوان.
أمسكا بي في اشمئزاز قائلين :
• لقد تبول على نفسه.
ضحك بجنون وقال:
• ماذا ستقول عندما تأتي وتراكَ هكذا.
قلت، وصوتي لا يكاد يغادر حنجرتي، وأنا أمدد ركبتي المقوستين وهما يرفعاني لأقف :
• ومن تلك ؟!
قال بحدة وسخرية :
• أمك..
حاولت استجماع ما لديِّ من قوة فلم أجد شيئا، فقلت في خوف وأنا أبكي: 
• أمي ماتت.
• أعرف أن أمك ماتت من 16 سنة.
رفعت حاجبي بصعوبة بالغة وقلت بصوت متهدج:
• فمن تلك التي ستأتي لتراني هكذا؟!
• التي تنتظركَ في الميدان.
ترددت كلماته في رأسي محدثة صدى لصوته في أذني لعلي أتذكر سبب ذهابي للميدان، واهٍ .. لو تذكرت، فسأظل ألعن هذا الشئ حتى بعد موتي الذي أراه يقف على بعد خطوتين مني.
أخرج صوتا من سقف حنكه، ثم قال ساخرا:
• تحب أفكرك.
توهجت يده في الغرفة شبه المظلمة بضوء هاتفه المحمول، فسمعتها تقول بصوت أنثوي ناعم:
• لازم أقابلك، فلدي سر يجب أن أخبرك به … وسكت الصوت.
قلت قاطعا صمتا ثقيلا ساد لثوانٍ: 
• تذكرت هذه ...
قفز نحوي كثور هائج، وأخذ يصفعني ويصفعني وهو يصرخ :
• اسكت يا كلب 
حتى سال الدم من فمي، وأصابع من يمسكان بي تنغرس في عضل ذراعي. 
ثم قال في تحدٍ، وهو يضغط على أسنانه بقوة، وقد أمسك أحدهم بشعر مؤخرة رأسي ليرفع وجهي في مقابل وجهه، حتى شعرت بأنفاسه الحارة المتلاحقة وهي تتصاعد فتلفح وجهي الذي صار منتفخًا كالبالون:
• إياك أن تنطق باسمها أمامي..إنها زوجتي يا حيوان.
• لم أكن أعرف..أكمل التسجيل وستعرف أننا أصدقاء فقط على الفيس بوك..هكذا قلت، وأنا أنتحب بمرارة ، واللعاب يسير من فمي مختلطا بدمي.
قال بغضب وألم:
• أصدقاء..لذا تنتظركَ في الميدان بباقة ورد حمراء.
وصفعني.. ثم تركوني أسقط، وأخذوا يركلونني بأحذيتهم حتى فقدت الوعي…
أفقت قبيل الفجر على الطريق الدائري والأمطار المتساقطة بغزارة تضرب جسدي العاري كما تضرب الآن زجاج شرفتي .

رضا نايل