الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد صلاح يكتب: مقهي العجائز

صدى البلد

لا أعرف لماذا أصبحت أعشق هذا المقهي، لم اعتد ارتياد المقاهي طيلة عمري، دائما اري أن المقهي وسيلة لإضاعة الوفت، فلماذا أجلس خارج بيتي اشرب شايا أو قهوة بينما استطيع أن أصتعها بنفسي، ولكن ذلك المقهي اسرني بحق

طلب مني أحد الأصدقاء أن يقابلني لمناقشة بضع أمور هامة، دعوته للقاء في بيتي فرفض تأدبا، وقال أنه سينتظرني في مقهي صغير في شارع ضيق في نفس الحي الذي نقطنه سويا، رسم لي العنوان وهو يقول تدخل من شارع كذا وتمر بدكان فلان حتي تصل لشارع كذا تسأل عن جزارة الحاج فلان ستجد الشارع وامقهي هو الوحيد في ذلك الشارع، في النهاية قال أنه متأكد ان المقهي سيعجبني.

كان صديقي يعرف أنني دقة قديمة لا تعجبني كافيهات هذه الأيام المليئة بالصخب والتلفاز الكبير المفتوع علي مباريات كورة قدم قديمة أو قنوات أغاني ، دقة قديمة لا تستسيغ وجود فتيات علي هذه المقاهي المودرن يدخن الشيشة ويضحكن بصوت عال.

وصلت المقهي بعد أن مشيت علي وصف الصديق وسألت بالطبع عدة مرات، وبمرجد أن رايته حتي وجدت راسي تنتفخ بالكتابة ، لا أعلم ما حدث بالتحديد ولا ماذا اصابني ولكن فجاءة وجدت اسهلا في الفكار يجتاحني بشدة وكأن راسي بالون ينتظر ضغطة من دبوس لينفجر ، وكل ذلك قبل أ أطا عتبه المقهي

المقهي عبارة عن محل كبير نسبيا اسفل عمارة.. لفظ بضع مناضد خارجه والبقية رصت بداخله بجوار الحائط، المناضد من الخشب غطت بمفارش من البلاستيك وتبتت بدبابيس ، المقاعد خشبية قديمة الطراز، بمجرد أن تدخل المقهي تجد أمامك مكان اعداد المشروبات والشيشة وعلي اليمين منه فحم مشتعل ، علي يمين باب المقهي رجلس رجل عجوز علي مكتب صغير وأعلاه صورة كبيرة بالأبيض والأسود بمجرد أن نظرت اليه ثم للصورة عرفت أنها صورته في شبابه، نادل عجوز ممصوص الجسد يرتدي جلباب ابيض وعليه مريلة لها جيب عريص من الأماموما زال يستخدم الماركات، بجانب الرجل العجوز الذي هو في الأغلب صاحب المقهي راديو حديث نسبيا من ذلك الذي كان ياتي به المعارون من دول الخليج وتشعد منه بنعومة أغنية لأم كلثوم .

عبرت عتبه المقهي ، ألقيت السلام علي الرجل لعجوز، ثم أنحنيت في ركن استكمل تسجيل المقهي في راسي، وراسي تضج برغبة الكتابة، أخرجت هاتفي واتصلت بصديقي الذي اخبرني أنه في الطريق، جاء النادل وهو يمسح منضدتي، تأملت ملامحه المتغضنه ونظرته الرتيبة، طلبت قهوة وسالني عن نوع البن الذي أفضله، مضي الرجل وبدات في تامل المقهي مرة أخري واضغط علي راسي حتي لا تنفجر، ابتسم لي الرجل العجوز ، بادلته الابتسام وشعرت بأن راسي امتلات برغبة الكتابة وتضخمت حتي تكاد تملا المقهي، جاء النادل ووضع أمامي كوبا صغيرا وكوب ماء ثم صب القهوة في الكوب اشعلت سيجارة، وهنا لم استطع

انتفضت كالممسوس وخرجت من المقهي وأنا اهتف لصاحبه العجوز أنني ساعود سريعا، كنت قد لمحت مكتبة قريبة من المقهي، جريا ذهبت اليها وابتعت بعض الورق البيض وأقلام مختلفة، عدت سريعا ووجدت الرجل يضحك ويقول لي بود أن يمتلك أوراقا واقلام بدلا من أن اذهب جريا واترك القهوة لتبرد، شكرته ووجدته ينادي النادل ويهمس في اذنه ، فتحت الأوراق وبدأت أنز كلاما علي الورق، اذوب مع المقهي وأجد نفسي وحدي في الكون لا اشعر سوي بصوت أم كلثوم ، وهمهمات بعض الرواد، رن هاتفي وأنا اشعل السيجارة العاشرة بعد فنجان القهوة الثاثل لأكتشف أن صديقي تاخر ، واجده هو من يطلبني معتذرا عن الموعد لظرف طارئ ، انهيت المكالمة متقبلا اعتذاره وقلت في نفسي " أحسن".

من يومها وعلاقتي بذلك المقهي اصبحت وطيدة. نمت بيني وبين العجائز الذين يرتادونه صداقة من نوع خاص، بالرغم من أنني اصغرهم، الا أنني كنت اجلس وافتح أوراقي وابدا في الكتابة فاجد الجميع يهمسون بدلا من الزعيق ، ويعيد صاحب المقهي مؤشر الراديو الي صوت أم كلثوم ، اصبحت أنظر في الوجوة يوميا وأعدها خوفا من أن أفقد أحدهم يوما فهم عجائز للغاية ، يقضون بقايا العمر يثرثرون ويتذكرون ، وأنا معهم أصبحت أثرثر واتذكر بالرغم من سنوات عمري القليلة وحياتي الصاخبة، تحدثوا معي في الكثير من حياتهم الخاصة، أصبحوا شخصيات لرواية بل لعدة روايات ، وبدات أكتبهم

واستطعت أن أنجز رواية كاملة وانا اذهب بشكل شبه يومي لهذا المقهي، بعد أن أنهيتها وقدمتها للناشر ذهبت للمقهي، وأخبرت العجائز بما فعلت، قاموا من مقاعدهم يسلمون علي ويقبلون وجنتي وجبيني مهنئين، دعوتهم جميعا علي حاجة ساقعة، كنت اعرف انهم في الرواية، شخصيات من ورق وأمامي من لحم ودم، ثم .... صدرت الرواية، أهديت كل واحد نسخة وبداوا يقراون ودمعت عيونهم وهم يجدون حكايتهم مروية علي صفحات رواية، يضحكون أحيانا، ويمسحون الدمع أحايين، كنت ابتسم فقط وعيناي مليئة بالدمع فهؤلاء الرجال العجائز ظنوا أنهم سيموتون علي المقهي دون أن يشعر بهم أحد ولكن تلك الرواية جعلتهم يحسون بأن حياتهم ستمتد في خلود الرواية