الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد الشاذلي يكتب: الهولوكوست المصري‎

صدى البلد

آت من بعيد ليذهب إلى الأبعد، ليس له شكل أو وقت محدد، يسير كما يقولون "ببركة الله" فيه أناس طغى على جبينهم هم الدنيا؛ وقد أصابهم من البلاء ما أصابهم، وقد ألفوا الحياة بكسر اللام وكسر نفوسهم بكل ما فيها، من مرارة العيش، وقحط العمل.

كنت مرتحلًا إلى بلدتي فحزمت أمتعتي وأوصدتهم بكتفي وبيدي منقولاتي وكأنني أصارع على بابه، ذاك الذي يتدافعون حوله كأنه "قطار للجنة"، وقد دفعني أحدهم للأمام فلا أدري هل أعنفه على فعلته أم أشكره على صنيعه إذ نجحت بين الرعية من الركوب.

وجدتني ملتصقًا بذكر يتقدمني فلا مجال أن أحرك قدمي، وأخرى فتاة تتعفف الرجال فتنظر جانبها وتخفي ملامحا خجلا من ضيق الموضع، وعلى يميني سيدة أنهكها السفر فافترشت الأرض فهي تعتزم عليّ أن أتمجلس جوارها، وقد علمت أن لا ملجأ للمجلس إلا على ورقة أبسطها على الأرض لتقي ملبسي المتمزق.

نعم عزيزي القارئ!، وجدت كتيبة من الطبقة الكادحة عليهم غبار الأرض كأنهم موتى تيقظوا للتو من قبورهم، خُيّل لي أنه "الهولوكوست المصري" على هيئة صندوق، تذكرت أبي حين كان يأتي متعرقا مصفر الوجه كل ليلة من عمله فأسأله ماذا دهاك؟ فيجيبني بلطف لا شئ يا بٌنيّ فقطر الصعيد "قطعة من جنة الخلد على أرض مصر"!
حوادث جمة، وأرواح تزهق، وأموال تبدد؛ في لحظات تتملكها الغفلة وسوء التنظيم، عربات مفككة، ومقاعد ممزقة، وممرات متسخة لم تعهد النظافة منذ نصف قرن على الأقل، تراه وهو يسير كطفل يحبو، وإذا أسرع كان كالشيخ الهرم.

قطر مميز ولا يحمل من اسمه أي ميزة سوى المميزون اللذين اشتكت منهم مقاعد القطار من كثرة عرقهم ودخانهم، أناس حملوا متاعب الدنيا على أعناقهم، يخرجون في صباح اليوم ويعودون في مسائه، يغالبون الدنيا فتغلبهم.

جلست وأنا أضع رأسي بين قدماي، فلم أستطع التنفس إلا كل حين، كانت العربة كالصندوق الصغير الذي يحوي أقلامًا متراصة متلاصقة، فمِنا مَن يقف، ومنا من يتعب فيجلس، ومنا من وجد المكان المخصص للمتع فارغ فاعتبر نفسه متاع وشغل مكانها، كنا كالقمح في شواله لا نجد نفس لنتنفس سوى الزفير الذي يخرجه الآخر من فمه وهذا يسب هذا، وهذا يلعن ذاك. 

ثم تأتي المصيبة الكبرى؛ أحدهم يخرج علبة سجائر من جيبه الصغير إذ لم يستطع تحمل هذا الزحام فأخرج شيئا يُخرج فيه غيظه ووضع سيجارته في فمه، ومع خروج بوادر الدخان خرج سُباب عليه من كل حدب ولأمه أكثر الركاب إذ لم يرأف بحالهم من الخناق

وتتوالى الأحداث وينكشف الستار عن سيدة في الأربعين من عمرها آتية تشكو همها وتنادي بصوت عالٍ تروي قصة تدمع لها العين والقوم بين مصدق ومكذب ناهيك عن حديثين للرسول لتثير بهما مشاعر الركاب، ثم تخرج من تلك العربة غير راضية لأنها لم تحصل على جنيه واحد وتختلف الأراء فيها؛ فيقول فلان أنها امرأة نراها كل يوم وبنفس الكلام، واعتدنا عليها كما اعتدنا على القطار، ويقول آخر أنها كاذبة فكل من في القطار-من بائعين ومتكففين- يعملون عند شخص واحد يذهبون له أخر اليوم لياخذ نصيب الأسد ويعطيهم الفُتات، وآخر يقول أنها جاءت لتشخذ وأن المتكففون من وجهاء الدولة لكثرة دخلهم. 

ويصل القطار إلى وجهته ونتدافع نحو الباب ناسين ما حلّ في الهولوكوست المصري! ويتكرر المشهد!!.