الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د.جوزيف رامز يكتب: مواقف البابا تواضروس الأصيلة.. ووطنية الكنيسة القبطية

صدى البلد

انشغلنا إبان زيارة الرئيس الفرنسى "ماكرون" لمصر الأسبوع الماضى، بفعاليات الزيارة السياسية والاقتصادية وبالجدال الذى أثير حول موضوع دفاعه عن حقوق الانسان فى مصر, ورد الرئيس السيسى الشجاع عليه وما يحمله من أهمية التعريف بأوضاع منطقة "الشرق الأوسط" والتى تختلف بالتأكيد عن الوضع سواء فى فرنسا أو أوروبا أو العالم الغربى عامة, والذى يرفع راية حقوق الانسان ويتباهى بها وسط منظومة عالمية غير عادلة أصلا, سبق لها أن تسببت فى تدمير العراق من قبل ودول عربية أخرى لاحقة ,أهمها: سوريا,وليبيا,واليمن والتدخلات المعروفة من القاصى والدانى بحجة الديمقراطية وحقوق الانسان وان كان الله لم يرض لمصر "أرض الكنانة" أن تمزق أو تهان كما حدث فى دول الجوار...من جراء تلك الدعاوى.

لكن بجوار هذا الموقف الشجاع حدث موقف آخر وطنى ,وذلك فى اطار الزيارة التى قام بها الرئيس "ماكرون" للكاتدرائية المرقسية ولقائه مع البابا "تواضروس الثانى" الثلاثاء الماضى 29/1 حيث تواردت الروايات غير الرسمية –والتى أميل الى تصديقها لمنطقيتها وايجابياتها-وحتى بعض أجهزة الاعلام والصحافة والتى نشرت تقاريرها بالفعل حول الحوار الراقى الذى دار بين ماكرون و البابا تواضروس الوطنى المحب لبلده والغيور عليها والذى يمثل روح العقل والحكمة ويعد امتدادا للمواقف الوطنية المشرفة للكنيسة القبطية والتى اعتادت عليها.

ففى زيارة تعد الأولى له لمقر الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، استفسر الرئيس الفرنسى "إيمانويل ماكرون" من قداسة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية عن وجود أزمات أو قلق يعترى أقباط مصر، مشيرا إلى الأزمات الأخلاقية التى تعيشها أوروبا، وعن رأيه فى الحوار بين الأديان؟ وقال الرئيس الفرنسى، خلال زيارته لمقر البابوية بالعباسية: "يهمنى أن أسمعكم عن ماذا يقلقكم؟ وماذا تخشون؟ وأضاف ماكرون: عاوز أعرف أساعدك ازاي في مشكلة الاختلاف؟ وما يهمنى أن اسمع رأيكم فى هذا الموضوع!"، وما هى طلباتكم؟.

ورد قداسة البابا تواضروس على تساؤلات الرئيس الفرنسى قائلا: احنا معندناش حاجة اسمها اختلاف اصلا. ولو واحهنا أي مشاكل بنحلها بالحوار احنا مشكلتنا الحقيقية فى مصر التعليم .. يعني لو عاوزين تقدموا مساعدة يبقى تساعدونا في بناء مدارس و تطوير مناهج, و"الواقع أن الكنيسة القبطية المصرية باعتبارها واحدة من أقدم المؤسسات فى مصر وهى كيان شعبى قديم –والكلام لقداسة البابا-فإننا نرى أن المشكلة الأولى فى المجتمع هى "التعليم" بكل جوانبه ونرى أنه مفتاح الحل، كما أن الاقتصاد مرتبط بالبيئة وهذا الترابط لا يتم إلا من خلال التعليم المستمر فى المدرسة, وأضاف قداسة البابا، أن مصر تعانى من الزيادة السكانية التى تؤثر على مشروعات التنمية، ولكن جودة التعليم وتدريب المدرسين ونشر المدارس وتحديث المناهج كلها وسائل تساعد فى التغلب على هذه المشكلة، وتشرع الكنيسة والدولة فى إقامة المدارس والمستشفيات التى تساهم فى الرعاية الصحية، مشيرا إلى أن السلام والاستقرار لا يأتيان إلا من خلال الحوار.

وعاد ماكرون يسأل: ومشكلة الاختلاف أساعدك فيها ازاي؟ وهنا قال البابا فى طول أناة:

إحنا مش مختلفين اصلًا و متصلين بالأزهر. احنا في مصر متعرفش المسيحي و المسلم من بعض وهما ماشيين فى الشارع, ما يبانش الفرق غير وهما داخلين الكنيسة او الجامع.

ثم عاد ماكرون يكرر: طب أساعدك ازاي عمليًا فى مشكلة التعليم و الاختلاف؟

البابا مبتسم : بأكد لك معندناش مشكلة اختلاف...عندنا حاجة اسمها بيت العيلة بتنظم بين الكنيسة و الأزهر و الشيخ الطيب راجل فاضل...احنا في مصر محتاجين مستشفيات و مدارس لأن عندنا زيادة سكانية و دي تبقي المساعدة اللي تقدروا تقدموها.

وشدد قداسة البابا على أهمية التعاون والحوار الاجتماعى الدائم، موضحا أنهما يساهمان فى الاستقرار وأشار بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، إلى أن الغرب يمثل عقل العالم، وأن الشرق يمثل قلب العالم وبين الاثنين حوار يجب ان يستمر وأن نفهم بعضنا البعض، فلدينا هنا تاريخ وتقاليد ومبادئ وقيم كثيرة فى الشرق ربما الغرب يحوى قيم وتقاليد ولكن يجب أن نفهم عقلية الشرق؟ وكيف عاش؟ والتاريخ هنا أمر مهم.

وأوضح قداسة البابا، أن الكنائس تعرضت لهجمات إرهابية كثيرة، ولكن هذه الهجمات كانت أساسًا ضد الوحدة الوطنية الموجودة فى مصر.. فهنا بمصر نعيش حول نهر النيل الذى جعلنا وحدة واحدة، نحفظ الوحدة الوطنية وهذه سر وحدتنا وقوتنا، وإذا تجولت فى شوارع القاهرة أو أى مدينة لا تستطيع أن تميز بين المسلم والقبطى فى مصر إلا فى المساجد والكنائس، فالوحدة الوطنية المعيار والقيمة الأولى التى نحافظ عليها فى مصر.

من جانبه، أكد الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، أنه حرص على زيارة الكنيسة الأرثوذكسية لما يكنه لها من احترام وللاعتراف بما تمثله من قيم ليس فقط لماضي مصر ولكن لمستقبلها أيضا.. مشيدا بجهود الحكومة المصرية لضمان أمن وحماية الأقباط. وقال ماكرون فى كلمة له خلال زيارته مقر الكاتدرائية المرقسية بالعباسية: "لقد كنت أتمنى رؤية قداسة البابا تواضروس نظرا لأهمية الأقباط المصريين لفرنسا.. وأعلم جيدا كم عانى الأرثوذكس فى السنوات الأخيرة من الإرهاب.. ولكننا نشيد بالعمل الذى تقوم به الحكومة المصرية حاليا لضمان أمنهم". وأعرب ماكرون عن سعادته بلقاء البابا تواضروس في ظل الظروف التي تمر بها مصر حاليا، مشددا على أن التعددية في مصر والمنطقة تمثل عنصرا أساسيا للسلام.

التاريخ يعيد نفسه :

ويبدو أن هذه المواقف المشرفة لقداسة البابا وغيره من البابوات الأقباط على مدار الأزمنة والقرون تعبر بحق عن وطنية الكنيسة القبطية ورفضها التدخل من اى طرف فى شؤون الوطن مع أشقائها المسلمين وذلك سواء كان مع الانجليز أيام الاحتلال او بعدها أو فى الثورات والحروب قاطبة وفى كل الساحات والمجالات. فها هو البابا بطرس "السابع" الجاولي ابن أسيوط.. فى موقف مشابه يرفض وصاية روسيا ...فلقد رسم البابا بطرس الجاولى عام 1809 ابان عهد محمد على باشا الذى حكم مصر فى سنة 1805، حتى تنازل عن الحكم لابنه إبراهيم باشا سنة 1848، ولما توفى كل من محمد على وإبراهيم باشا عين بعدهما عباس باشا سنة 1848 ..

ومن المواقف الوطنية أيضا، والتى سجلت عبر التاريخ، أن الإمبراطورية الروسية كانت تعد أكبر دولة مسيحية أرثوذكسية ويحكمها قيصر، من ثم فلقد جاء سفير روسيا ليعرض على البابا بطرس موضوع حماية قيصر روسيا للأقباط، فابتسم البابا بطرس الجاولى فى وجه محدثه وسأله برفق ومودة قائلًا له: «هل ملككم (قيصر روسيا) يموت أم يعيش إلى الأبد؟ فقال له الزائر: «هو يموت طبعًا مثل كل بنى البشر»، ولكن البابا بطرس رفض هذا العرض، ورد على السفير بهذه الجملة الذهبية: «نحن فى حمى من لا يموت، فإذا كان قيصر روسيا يموت فنحن نفضل أن نكون فى حمى من لا يموت وليس لملكه نهاية».. فانصرف السفير من أمام البابا وهو يتعجب من رده المنطقى، وتوجه السفير إلى محمد على فسأله عما رأى بمصر فأجابه: «لم تدهشنى عظمة الأهرام ولا ارتفاع المسلات ولا الكتابة الموجودة عليها ولم يبهرنى كل ما هو موجود فى مصر من عجائب، بل أثرت فى نفسى فقط زيارتى للرجل التقى بطريرك الأقباط، ثم روى له كل ما جرى بينهما، فطفح السرور على وجه محمد على باشا، ولما ذهب من أمامه السفير الروسى حتى قام وذهب إلى المقر البابوى، وقدم الشكر الجزيل للبابا بطرس الجاولى على ما أبداه من استقلالية لكنيسته وعلى ما أبداه من وطنية ونبذ التدخل الخارجى.

ولقد ظل البابا بطرس الجاولى على الكرسى المرقسى 42 سنة، ورحل عن عالمنا فى 5 إبريل 1952...اذن فوطنية الأقباط وعظمة الكنيسة القبطية هى عبر التاريخ,ولعل مواقف البابا "تواضروس"مع الرئيس "ماكرون" ليست بالأمر المستغرب عليه, وهو الذى قال ابان موجة حرق كنائس الأقباط مه نهاية عصر الاخوان "ان وطنا بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن" وهى العبارة التى استحسنها الرئيس السيسى وأشاد بها مؤخرا اثناء زيارته للكاتدرائية الجديدة بالعاصمة الادارية...حقا هذه هى الروح والوطنية التى لخصها المتنيح العظيم "البابا شنودة الثالث", بقوله "ان مصر ليست فقط وطنا نعيش فيه بل هي وطن يعيش فينا".