الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

دنيا طارق تكتب: يا ليت

صدى البلد



لأول مرة يستولي الأسود على ثوبي، حتى حجابي الذي اعتلى رأسي كان يحمل اللون ذاته الذي أكرهه؛ يذكرني بيوم حُفر بداخلي ولم أنساه، فقد كنا نعيش أنا وأخي الذي يكبرني بعشرة أعوام مع جدي بعد أن توفى أبي وأمي، كنت في عامي الثالث، وبعدها بأربع سنوات أتى يوم طلبت فيه من جدي دُمية لأني مللت لكون أخي لا يلعب معي، إما في مدرسته أو يلعب مع رفاقه الصبيان، وأنا لا أجد ما أفعله، ووعدني أنه سيأتي بها.
طوال اليوم أدور حول نفسي خلف الباب مُنتظرة قدومه، حتى سمعت صوت الجرس فركضت وفتحت الباب لأجد رجلين غريبين سألاني إذا كان جدي يعيش هنا، وحين أخبرتهم أنه نعم كان أخي قد أتى ليقف خلفي، وفي اللحظة ذاتها قال أحدهما أنهما وجداه ميتًا على الأرض في الطريق!
وبعد ساعات قليلة ملأ صوت الصراخ والبكاء والنواح بيتنا، لم أكن أعلم معنى هذه الكلمة - موت- لكني فجأة وجدت بيتنا يزدحم، كل النساء ترتدين الأسود والدموع تملأ وجوهن، والرجال صامتون متماسكون، صوت المقريء جميل لكني لا أفهم أي شيء مما يرتله.
وجدت أخي جالسًا في زاوية يبكي بعد محاولات فاشلة منه ليبدو متماسكًا فانفرد بنفسه ليستطيع البكاء وحين سألته ماذا يعني أن جدنا قد مات، أجابني:
• أننا لن نراه ثانية
قال جملته فقط ليجعلني أفهم، أو ربما حتى يمنعني من السؤال عنه أو عن قدومه لاحقًا، بعدها أيقنت سبب بكاء الجميع، وعرفت أنني كان عليّ أن أفعل مثلهم لكني لم أفعل، بعدها جفت دموعي ومشاعري ولم أتألم على فقدان شخص آخر؛ ثمة شخص يرحل وتصبح بعدها قلوبنا راكدة لا تميز بين الفرح والحزن .
لكني لم أكن أعلم أنه يوجد من هو أغلى حين يرحل سيكون حزني أكبر بكثير،ظل أخي يحذرني ويرهبني من قسوة العالم، يخبرني أنه لا أمان سوى بجواره، حتى رحل هو ولم يصبح بعدها للعالم معنى بالنسبة لي.
وللمرة الثانية أسمع صراخ النساء بجواري وأنين الرجال على بعد أمتار قليلة جدًا..صوت المقريء ينتفض له جسدي.. كل من يمر أسمع صوت دعاؤه ..هذه تأتي لتحتضني وتدمع، وتلك تقبض على يدي بشدة اعتقادًا منها أن هذا يزيد من صلابتي، لم أكن أتصنع التماسك أبدًا لكن لم يكن بمقدرتي أن أنهار أو ربما أنا من أقنعت نفسي أنني علي ألّا أنهار، وكأن الحزن جُرم لا يناسبني فعله على الرغم من أنني أحق الناس به الآن.
فأصبحت بمفردي ويحتمل أن أكون هكذا حتى موعد ذهابي لكل من فقدتهم، يتعجب الجميع لأنني لم أبكي ولم أنوح.. لكن قلبي كان يرتجف لشعوري أن الجبل الذي وصفت قوتي به من قبل ظلت تنحت به الدنيا حتى يصبح ترابًا وقد كان..
كنت أفكر في كل شيء حتى أخبرتني احداهن أنه ينتظرني بالخارج لتعزيتي؛ الوحيد الذي تمكن من الحصول على قلبي الذي وضعته في صندوق صنعته من أوجاع لم يعرف أحد شيئًا عنها غيري..حاول مرارًا قبل أن يتمكن من تملكه، لم يكن يرغب في إحتكاره وهذا ما طمأنني، وحين قررنا أن نتزوج، أخي رفض ..لا أعلم حتى الآن سبب رفضه لكنه كان قد حسم الأمر، أظن أنه كان يخشي أن أتركه بمفرده فلم يعد لنا أحد سوى أنفسنا رغم أنه تزوج وأنجب طفلًا يشبهه، طفل دموعه جعلت أشد الناس تماسكًا تسقط أرضًا من الحزن وتنتفض لكون طفل لا يفهم للموت معنى يبكي هكذا..مابالك بالذي يعرف معنى الموت! لكنه لم يكن يريدني أن أستقل بحياتي عنه وأتركه..لكن ماذا عنه إذا كان هو من تركني.
وبعد رفضه وجدت من أحببت يخبرني أنه سيتمادى في محاولاته حتى يغير من رأي أخي، وأخي يصر على عدم موافقته، وكان قد حسم الأمر تمامًا حين خيرني إما أن أختار من أحببت وأنسي أنني لي أخ او أختاره هو..بعد تفكير طويل اخترت من يربطني به الدم، لأني أحبه ولا أريد أن أخسره، طنًا أنه الأبقى..وظننت أن الشخص الوحيد الذي أحببته سيبقى في محاولاته مهما كان الثمن مادام متأكدًا من حبي له ورغبتي في أن أكون معه، لكن بمجرد إخباري له بالقرار الذي تمكن مني، صُدم انسحب، لم ألومه، فأنا من تخليت وتركت الحبل وأمرته أن يتركه هو الآخر فوقع الحبل من أيدينا.
خرجت له وأنا مازلت صامدة حتى مد يده وأمسك بيدي..وجدتني أقبض على يده لدرجة جعلته يندهش، وأغمضت عيناي وبدأت في بكائي..بقيت هكذا لثوان وارتميت بأحضانه وأرتفع صوت آهاتي .. احتضنني بيديه وكنت أسمع دقات قلبه ..لم ينطق بكلمة لكن دقات قلبه بثت بداخلي كل الأمان ..
انتفضت وعدت لوعيِّ، وفتحت عيناي حين تذكرت زوجته التي تزوجها بعد قرار أخي، ووجدتني مازلت ممسكة بيده ولم تسقط من عيناي دمعة واحدة وهو يقف أمامي بيننا مسافة ذراعي وذراعه، ويقول الكلمات التي لم أسمع غيرها طوال اليوم .
كم كنت أتمنى أن يكون هذا التخيل حقيقة وكنت احتضنته حقًا..أعلم أن الحزن على المفقودين لن يقل لكن ربما أشعر أن هناك أحد باقي ..ليت أخي كان يعرف أنه سيتركني قريبًا، أظن أنه لن يكون حازمًا كما كان في قراره..مؤكد لن يريدني أكون بمفردي مثلما أنا الآن..وافقت على قراره لأني أحبه وكان هو الأهم لي، لكنه لم يعد موجودًا، جميعهم يحبونه كثيرًا لكن لكل منهم حياته وأنا فقط من أصبحت بمفردها، سينتهي حزنهم بعد أيام، لكن حزني أنا لن ينتهي، ولن أكف عن قولي يا ليت أخي كان يعلم.