الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

يحيى ياسين يكتب: قطار ومرار‎

صدى البلد



ركب صديقنا قطار الدرجة الأولى في سفرته الأخيرة، لم يكن الأمر كالمعتاد أن يقلب بهاتفه أو أن يتكأ ينظر طريقه الذي طُبع في ذاكرته من تكرار سفره عليه، بل يسير محدّقا في كل قرية أو مدينة يمر عليها يذكر جلساته في عشرات المرات قبل ذاك.

كان طريقه ليس جذابا بما حلُم كما كان يظن في طفولته عن متعة السفر، يغوص القطار به من قرية فقيرة إلى أخرى أشد منها فقرا وبؤسا، أعمدة مضاءة بذاك اللون الأصفر الباهت يسطع مزغللا الأعين، ومارة مُلفّحين بأغطية بالية، مهلهلي المظهر قلما تجد أحدهم باسما، وامرأة تنظر خلف النافذة بحسرة للعربة تظنها الجنة ولكنها بداخلها أتربة ومقاعد عفى الزمان عليها منذ حين.

وبين النظر والهيام في بؤس طريقه والغفلة تارة والتقلب تارة أخرى، ينظر حوله يجد أناسًا متهالكين متكئين نيام، أحدهم يزعق بصوت منخاره وآخر تلفّح غطاء رأسه فغاب في طيّ النوم، وذاك قد خلع حذاءه المكمكم يعطر منه ما تطيب له الأنف، والمارة بين محطة وأخرى مُحمّلين بأغراضهم فباب العربة لا يُترك مغلقا لثوانِ.

وهناك في ذاك العربة البعيدة قليلا لا تصمت إلا وتسمع زعقا يُفيقُك لو كنت ميتًا، كأنها مُشادّة وتراشق بالأيدي واللفظ وآخر رجل لا يحمل تذكاره ولا يحمل مالًا، وأناسٌ في الطرقات قد غلب عليهم أمرهم فتلاصقوا وتغرّموا كي يصلوا لوجهتهم، هذا يبث فمه في عنق الآخر، وأخرى افترشت الأرض بطفلها الرضيع والمارة يركلونها في كل مرة!.

أما صديقنا طيلة أربع سنوات يرقب المشهد المتكرر، لا تغفل عيناه كبقية الراحلين قط!، كأنّ النوم قد خاصمه خصام الثأر لقتيل!، فكلما مرّ عليه صاحب القطار عابس الوجه يفحص ما جدّ من التذاكر يجده كالحارس وسط الموتى، متكررا يمر رجلٌ يحمل أطعمةً تنظر لثمنها كأنها طُهيت في الجنة! مرارا مُلحّا للشراء فلا ينظر إليه أحد!

ويعود صديقنا لنافذته علّها تُطل بجديد، ومجددًا تتفحص عيناه بُيوتًا قد عبّر مظهرها عمّا بداخلها، تالله ما عمُرت إلا بستر الله وحمده، ممرات مياه متسخة يمر بها العفن وقد اتخذوها موضعا للقمامة، ورجل يحرث أرضا حوله فتيان وأطفال تجمّع على وجوههم ذبابٌ فبات لهم صديقًا لا يهُشّونه!

كان يُحدّق في جوانب العربة وتصيبه كل حين نسمات ذاك الحوض المتعطر ببقايا الركّاب العفنة! وإذا ذهب يبتال بالحوض سدّ أنفه فظلّ مُنقطع الأنفس حتى ينتهي كأن روحه تتصاعد أهون عليه من قذارة الرائحة.

مجددا يعزم ألّا تخط قدمه ذاك القطار مؤخرا، كان يجمع تذاكره يتحسر قلبه على أموال دُفعت فلم يأخذ منها عائدا إلا الشفقة على حاله.