الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

استغن تغن


فى مرحلة فارقة من حياتى التقيته، أنا يائسة، ممزقة، وهو أمامى يجلس على كرسى متحرك مع أنه شاب لا يتخطى العشرينات من عمره . 

وجهه كله حياة، نظراته تبعث على التفاؤل والأمل . كل شىء فيه يجبرك على أن ترثى لنفسك كيف أنك بكامل عافيتك ويعتريك الهم وتقاوم سقوط الدمعات من عينيك وتجبر شفتيك على الابتسام وقلبك على مواصلة النبض والحياة . فى هذا اليوم الذى التقيته اخذنى من نفسى واعترف بأننى نسيت همومى وانشغلت به كيف لشاب أن يتحمل ماهو فيه ويتعايش مع النقصان والعوز !! تكررت مرات لقائى به وأنا من منطلق كبرياء الأنثى أنتظر أن يبدأ هو السلام، فالكلام، ولكنه لم يسلم ولم يتكلم فقط ينظر لى ويبتسم ويداوم الابتسام ولا يتركني إلا وأنا مبتسمة ولا أدرى السبب ولا التفسير.

تباعدت فرص لقائى بالمتفاءل كما أسميته لتباعد الهدف من الذهاب إلى مكان التقيته؛ وظل طيفه يطاردنى وابتسامته تأسرنى وأيضا الشغف بمعرفة كل شيء عنه يسيطر على تفكيرى ويأخذ من اهتماماتى ووقتى . ولكنى لازلت أحتفظ بكبرياء الأنثى فى داخلى وأرفض المبادرة والذهاب إلى حيث أنا على علم انى سألتقيه هناك . مضت فترة ليست بالطويلة تزايدت خلالها آلامى وأحزانى وأشار على المقربون بالسفر وتغيير المكان والأشخاص والعودة بطاقة إيجابية تبدد السلبيات الكثيرة التى تحاوطنى وتشاركنى كل شىء فى هذه المرحلة البغيضة من عمرى، وبالفعل ذهبت إلى واحدة من شركات السياحة وقمت بحجز رحلة من رحلاتها إلى منتجع سياحى فى بلدنا الحبيبة، وجاء يوم السفر ومكان التجمع وأنا أجمع بقاياى لكى أنفض عن نفسى أحزانها وأسرق سعادة حرمت منها قسرا وعنوة، وإذا بى أجده أمامى ويعرفنا بنفسه بأنه عامر سيف الدين مرشدنا فى هذه الرحلة ويتمنى لنا السعادة، صعدنا إلى حيث أماكن جلوسنا وأنا مصدومة من المفاجأة والاستغراب فى نفس الوقت تزداد المفاجآت ليكون مقعده بجوارى وتمضى ساعات السفر بطيئة يبدأها بالسلام ويقول لى كنت متأكد انى هشوفك .. ولا أسأله عن سبب تأكده فأنا فى قمة السعادة بوجودى بجواره أولا ثم بحديثه الذى أرضى فى كبريائى وجمل أنوثتى . ونظرت إليه وعرفت نفسى، فقال لى الاسم والوظيفة موجودين عندى، أنا عاوز أعرف الإنسانة اللى جواكى مين هى . نظرت نظرة غرور إليه وقلت له بتكبر مصطنع ؛ متخلفتش كتير عن الاسم . فشعر من ردى أنه قد تخطى مرحلة وحاجزا كان يجب أن يبتعد عنهما فبادر بالاعتذار، لأرد عليه مسرعة بلا تعتذر أنا فقط محبطة ولا أريد الحديث عن نفسى وهذه الرحلة الهدف منها أن أنسى وأبدأ من جديد إن استطعت. سلم على وتحامل على نفسه وأمسك بعصا يتوكأ عليها والتقط ميكرفون الشاحنة وتحدث إلى المسافرين وعرفهم بجدول الرحلة وألقي معلومات عن المكان الذى سنذهب إليه والمحظورات والممنوعات وكل شىء يتعلق بالرحلة.

فى أيام الرحلة كنت أراقبه شعلة نشاط وطاقة متجددة لا يعرف العجز ولا يشعر بنقصه الجسمانى أبدا عكسى تمامى فأنا أشعر رغم معافاتى بأننى هرمة، مقسمة، مقطعة، بالية من الداخل . تقربنا من بعضنا البعض وعرفت كل ما كان يحيرنى عنه فهو كما قال لى وبنفس الابتسامة التى لاتفارقه أبدا .. إنه خريج كلية السياحة والفنادق من أسرة طيبة ابن وحيد على ثلاث بنات كان مقدما على الحياة بقوة وحب أسس شركته السياحية هو وصديقيه وفتاة أحلامه التى عشقها منذ المرحلة الثانوية وكان يعد العدة لكل شىء جميل معها وبها ..وفى يوم انهار فيه كل شىء فعندما عاد الى بيته شم رائحة غاز معبأ بها المكان فجرى على أبويه وأخوته كى يوقظهم من نومهم ولكنه فشل فبدأ بحمل أبيه ونزل به إلى باب المسكن ومن بعده أمه وأخوته وهم فى فى حالة إعياء كامل وغيبوبة تامة، وأثناء نزوله يواصل طرق أبواب الجيران كلهم لينبههم بهول الحدث ..ويسابق الزمن بسيارته لإنقاذهم فى اقرب مستشفى ولكنه يصل بعد فوات الأوان كما أخبره الأطباء وفى لحظة تغلق الستار عن أسرته كلها ويصبح وحيدا وبعد دفن أسرته وهو عائد مع المعزين من المدفن تنتقيه عربة طائشة دونا عن كل من معه وتتسبب فى فقده قدميه وربما امله فى الحياة. 

بعد هذا اليوم تغير كل شىء وانتهج نهجا جديدا فى الحياة وهو نهج الاعتزال والوحدة وخاصة أن حب عمره تركته لأنها لا تستطيع مواصلة حياتها مع قعيد . اسودت الحياة فى عينيه بعد ان تركته ليطل عليه باعث امل متمثل فى درويش كان يعطف عليه فى طريقه إلى شركته ويطعمه ويحضر له الثياب ويمازحه ويهتم لأمره، هذا الدرويش كان كلما مر به يقول بصوت عالى (استغنى تغنى ) وكأنه يقولها له ويقصده بها ولكنه كما يحكى لى لم يهتم ويواصل عمره الحزين وفى يوم يرى الدرويش فى منامه يمسك بيده ويدخله مكان متسع ويشير بأصابعه كلها على اناس كثر ويتوسطهم اجمل ماوقعت عليه عينيه ؛ ويقول لله ...اتريد ان تكون معهم وفى صحبة خاتم المرسلين فيبكى بحرقة ويقول نعم ؛ فيرد عليه الدرويش ويقول له اذن استغنى تغنى .. ويقوم من نومه سعيدا ومن يومها وهو فى رحلة استغناء وغنى.

اعترف أننى بعد أن سمعت منه حكايته وتجربته القاسية هانت على تجربتى ولكنى حتى الآن لم أستطع أن أكون مثله ولم أصبح على مبدأه وإن كنت أحاول جاهدة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط