الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. أحمد الصاوي يكتب: الرسول وصاحباه وفن حل الأزمات 9

صدى البلد

من المعلوم أن الذي خرج من المدينة إلى مكة في صلح الحديبية هو صف خالص نقي طاهر، وعددهم (1400) مؤمن ليس فيهم إلا منافق واحد ليس له كبير الأثر في أوساط المؤمنين، وكما هو معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج بصف مؤمن خالص كان النصر قريبًا بإذن الله عز وجل، ولذلك سنرى نتائج عظيمة جدًا نتيجة خروج هذا الصف النقي من المدينة المنورة، فقد كانوا (1400) وفي رواية: (1500 صحابي).

النبي عليه السلام وخروج النساء
وأخذ صلى الله عليه وسلم معه في خروجه زوجته أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وكان هذا من هديه صلى الله عليه وسلم أن يصطحب إحدى زوجاته، وكأني به عليه السلام يبين لأمته أن المرأة شريك للرجل في كل المواطن حتى في أشدها فكان يصطحبهم في الجهاد في سبيل الله بل لا يمنعهم من الخروج فكان النساء يخرجن مع الجيش لتطبيب المصابين ، وحمل الماء للمجاهدين، بل والقتال بالسيف إذا لزم الأمر، فها هي نسيبة بنت كعب (أم عمارة) تطلق عليها الباحثة العالمية (المسز ماجنام) أنها كانت تقوم بما تقوم به منظمات الهلال والصليب الأحمر في العصر الحاضر.

فالخطاب في النصوص الشرعية شاملًا للجنسين الذكر والأنثى، والأنوثة والأمومة لا تعيق خدمة الدين والعقيدة والوطن، ولا تنافي بلوغ المعرفة والنبوغ العلمي لدى النساء، والواقع يشهد بذلك، "حيث نجد أن كتب السيرة سجلت لنا اللحظات الأولى من تلقي الوحي، وكيف اهتز له بيت النبوة، فكانت المؤمنة الأولى، والمستمعة والتالية الأولى لوحي السماء، الباذلة الأولى في سبيل الدعوة الإسلامية من نفسها ومالها، والمجاهدة الأولى بنفسها ومالها والزوجة المصدقة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ثم يتوالى الوحي في حجرات أمهات المؤمنين، وكان للسيدة عائشة رضي الله عنها القدْح المعلى في شرف الاهتمام بسنة رسول الله فأصبحت مفتية ومعلمة وموجهة لأبواب الخير بالإضافة لمساهمتها في خدمة العقيدة الإسلامية . ولقد ضربت أمهات المؤمنين ونساء عهد النبوة من الصحابيات أروع الأمثلة في خدمة الدين والوطن ، حتى أصبحن من الفقيهات والمحدثات ، بل وربما أشكل على الرجال مسألة فيكون حلها في علم النساء ، ولا عجب فلله درهن بل كانت المرأة تسأل فتنزل الآيات جوابا لسؤالها، أو بيانًا لقضيتها ، كما حصل مع أم سلمة رضي الله عنها قالت: يار سول الله : لا أسمع ذكر النساء في الهجرة ، فأنزل الله : فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ...".

فالمرأة في العهد النبوي تميزت وتألقت وتصدرت مكانًا عاليًا ، بايعت وهاجرت وجاهدت وتعلمت وعلّمت ، حتى بلغ ذكرها عنان السماء ، وملأ علمها أرجاء الأرض ، فحق لها أن يخلد التاريخ اسمها ، وشرف لنساء الأمة الاقتداء بهن في خدمة الدين والوطن، وصدق المتنبي :
ولوْ كانَ النّساءُ كمَنْ فَقَدْنا لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ عَيبٌ ولا التّذكيرُ فَخْرٌ للهِلالِ
فكان للمرأة المسلمة حضور بارز في المجتمع العلمي الإسلامي، فكانت تتعلم وتعلم ، وترحل لطلب العلم ، ويقصدها الطلاب لأخذ العلم عنها ، وتصنف الكتب ، وتفتي ، وتستشار في الأمور العامة 0

ومن هذا المنطلق أخذ النبي عليه الصلاة والسلام معه زوجته أم سلمة رضي الله عنها ، وكان هذا الخروج في غرة ذي القعدة سنة (6)هـ بعد سنة من الأحزاب، واتجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة، وفي ذي الحليفة التي هي الآن آبار علي وهو المكان الذي يحرم منه القادمون من المدينة إلى مكة، هناك في ذي الحليفة أحرم صلى الله عليه وسلم وقلد الهدي، وكان قد أخذ معه مجموعة ضخمة من الإبل ليذبحها في مكة المكرمة.

موقف قريش من زيارة الرسول عليه السلام
وهناك فوجئ عليه الصلاة والسلام بأن قريشًا قد جمعت جيشًا وجمعت الأحابيش، والأحابيش: هي مجموعة من القبائل كانت تتحالف مع قريش، وسميت بذلك؛ لأنهم اجتمعوا عند جبل اسمه حبشي، وعقدوا اتفاقية دفاع مشترك عن مكة المكرمة.فهذه المجموعة من القبائل جمعتها قريش لصد الرسول صلى الله عليه وسلم عن أداء العمرة في مكة المكرمة، مع أن العرف والقانون الدولي في ذلك الوقت يسمح للرسول عليه الصلاة والسلام بأن يذهب إلى مكة معززًا مكرمًا ممنوعًا، بل على قريش في أعرافها وفي قوانينها أن ترعى حقوق المسلمين، وأن تخدم المسلمين، وأن تسقي الحجاج، وأن تفعل كذا وكذا، لكن كل هذا ضربت به قريش عرض الحائط، وبدأت التعامل مع الموضوع بنوع من الغدر ومخالفة القوانين والعهود التي بينها وبين العرب قاطبة.

فوجد صلى الله عليه وسلم أن هناك جيشًا يقف عند كراع الغميم يمنع المسلمين من الوصول إلى مكة المكرمة، هذا موقف خطير، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا ( 1400 ) من المسلمين وبسلاح المسافر، ويقف أمامه عند كراع الغميم جيش، ليس من قريش فقط، ولكن من قريش ومن معها من القبائل المحالفة لها.

النبي عليه الصلاة والسلام يستشير كبار رجال الدولة
وقف صلى الله عليه وسلم وبدأ يأخذ الشورى بينه وبين أصحابه، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم الشورى في موقف من المواقف، وهذا تعليم من النبي لأمته وللقادة من بعده لفنون الديمقراطية في كل الأمور إلا في حالة ما إذا كان هناك أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، إذا كان أمر حل أو حرمة فهنا لا يأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام رأي الصحابة فيه.فمثلًا: الخروج من المدينة المنورة إلى مكة لأداء العمرة كان عن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لذلك لم يجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ليأخذ رأيهم:
هل يذهب أم لا ؟ لكن حينما يتعلق الأمر بقضية ليست دينية بل عسكرية لابد من استشارة كبار رجال الدولة ، فكان ممن تكلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال: إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، يعني: رأي الصديق رضي الله عنه وأرضاه ألا نسعى لقتالهم ولا نذهب إلى قبائل الأحابيش ولا نقاتل هذا الجيش، بل نكمل الطريق في محاولة الوصول إلى البيت، فإن كان هذا الجيش الذي وضع في كراع الغميم مجرد إرهاب للمسلمين ولن يقاتل فنحن سنكمل الطريق ونذهب إلى العمرة في مكة المكرمة، وإن أصروا على القتال قاتلناهم فنحن لا نخشى القتال، ولكن لا نسعى إليه، هذا ملخص رأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قبلوا هذا الرأي واستحسنوه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أكملوا الطريق، لكن قريشًا كانت مصرة على منع الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه من دخول مكة المكرمة للعمرة؛ لذلك وضعت فرقة قوية من الفرسان على رأسهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وكان وقتها مشركًا، وهذه الفرقة من الفرسان حوالي ( 200 ) فارس، ووراءهم جيش مكة، وهذه الفرقة كانت في كراع الغميم، ولما اقترب الرسول عليه الصلاة والسلام وقف أمام هذه الفرقة المسلحة، وعند هذا الوقوف جاء موعد صلاة الظهر، والمسلمون في أي ظرف من الظروف لا يضيعون الصلاة ولا يؤخرون الصلاة عن أوقاتها إلا في النادر، لكن عموم الأمر أن المسلمين يصلون الصلوات في أوقاتها حتى في ميادين القتال، بل إنهم كثيرًا ما كانوا يصلون الصلاة على خيولهم إيماءً إذا احتدم القتال، هذا اهتمام كبير جدًا بقضية الصلاة، ووقف صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه يصلون صلاة الظهر خلفه مؤتمين به صلى الله عليه وسلم، يركعون ويسجدون جميعًا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم كما ذكرنا ( 1400 ).

خالد بن الوليد وشعوره بالحماية الإلهية للمسلمين
خالد بن الوليد قائد فرسان المشركين رأى المسلمين في صلاتهم في حال الركوع والسجود، ورأى الجيش كله لا يرى مَنْ أمامه في وضع السجود، فوجدها فرصة للإغارة على المسلمين فهو فكر بذلك دون أن يظهر ما فكر فيه إلى أحد، لكن خالد بن الوليد لم يأخذ قرارًا حاسمًا، مع أنه يرى أن هذه فرصة ممكنة للهجوم على المسلمين، فسأل الذين حوله: هل هناك صلاة ثانية للمسلمين مثل هذه الصلاة؟ فقال له من حوله من المشركين الذين يعلمون أحوال المسلمين: نعم هناك صلاة يسمونها صلاة العصر، هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم.

فرأى خالد بن الوليد أن هناك فرصة للهجوم على المسلمين أثناء صلاة العصر، ولم يخبر بذلك أحدًا من أصحابه من المشركين، فلما جاء وقت صلاة العصر وقف صلى الله عليه وسلم ليصلي بالمؤمنين فنزل عليه الوحي بصفة صلاة الخوف، وصلاة الخوف صلاة خاصة لا يقوم بها المسلمون إلا في الظروف الضيقة جدًا، في حال ما إذا كان المسلمون في ميدان القتال ويخافون من عدوهم أن يغير عليهم فلهم أن يصلوا صلاة الخوف.

ومن صفة هذه الصلاة بأن الإمام يصلي ركعتين ويصلي خلفه نصف الجيش، والنصف الآخر يقف للحراسة، وبعدما يصل الإمام إلى الركعة الثانية يقعد للتشهد ولا يقوم، وبقية الناس تسلم وتنتهي من صلاتها بعد ركعتين؛ لأنهم يصلون صلاة قصر المسافر، وينصرف نصف الجيش الذي صلى ليقف في الحراسة ويأتي الذين حرسوا الجيش في صلاته الأولى ويصلون خلف الإمام ركعتين أيضًا، فالإمام يقف بعد التشهد الأوسط ويصلي ركعتين التي بقيت له من الصلاة الرباعية التي هو صلاها فيصلي بنصف الجيش الثاني ركعتين، فيكون الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاة الخوف صلى أربع ركعات، ونصف الجيش صلى الركعتين الأوليين، والنصف الثاني صلى الركعتين الأخريين.

: ، فـخالد بن الوليد كان يريد أن يهجم على المسلمين أثناء صلاة العصر، ولكن لم يقدر؛ لأن نصف الجيش وقف للحراسة، فقال كلمة عجيبة قال: إن القوم ممنوعون، يعني: هؤلاء عليهم حماية غير طبيعية، حماية فوق طاقة البشر، كيف صلوا هذه الصلاة للمرة الأولى في حياتهم بهذه الكيفية، من أعلمهم بما فكر فيه خالد ، مع أنه لم يطلع أحدًا على ما كان يفكر فيه؟ ولعل هذا الموقف كان له أثر كبير في تفكير خالد بن الوليد في أن يسلم؛ فهو أسلم بعد صلح الحديبية بشهور قليلة.

لم يستطع خالد بن الوليد أن يحارب المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد الدخول في قتال مع المشركين، وبعد ما انتهى عليه الصلاة والسلام من الصلاة أخذ الجيش وانحرف عن جيش خالد بن الوليد متجنبًا إياه، وبدأ في التوجه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، فهو صلى الله عليه وسلم مصر على استكمال الأمر حتى نهايته، وخالد بن الوليد حين رأى ذلك الموقف أصبح مترددًا في قضية القتال، وقال: إن القوم ممنوعون، ورجع سريعًا إلى مكة ليخبرهم بهذا الأمر.

وهنا نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهته للأزمات كان يستعين بالنساء ويستشيرهم ، كما كان يستشير كبار رجال الدولة ويأخذ برايهم ، وكان يتجنب القتال واراقة الدماء فها هو صلى الله عليه وسلم يتجنب الفرقة العسكرية بقيادة خالد بن الوليد ، وحينما يجد فرصة لتحقيق السلام والأمن والأمان فإنه يبادر إليها صلى الله عليه وسلم كما سنرى في المقال القادم إن شاء الله تعالى.