الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الحسن بن طلال يكتب للأهرام: القتل الجماعي على أساس ديني

صدى البلد

قال الأمير الحسن بن طلال رئيس منتدى الفكر العربى إن ما شهدناه أخيرا فى العالم من القتل والقتل المضاد على أساس دينى، والذى يتخذ العالم بأسره مسرح نشاط مفتوح له، من قبيل ما حصل بالولايات المتحدة ونيوزيلندا وأخيرا فى سريلانكا، هذا الوضع لا يهدد استقرار وأمن العالم فحسب، إنما يفرغ القيم الدينية من مضمونها الروحى ودافعها الأخلاقى، ويحولها إلى صراع عصبيات ومنطق غلبة ورغبة انتقام.

وأضاف أن الخطاب الدينى المصحوب مع هذا النشاط الإجرامى ينقل مفهوم الدين من منطق تقديس للإنسان إلى منطق فناء وإبادة له، من منطق إعمار للحياة إلى منطق تعطيل لقواها وشلها عن تحقيق مقاصدها وكمالاتها، من منطق الشفقة والتعاطف إلى منطق القسوة وإشفاء غليل الحقد والكراهية وإطلاق كامل طاقة التدمير الكامنة فى كل إنسان، من منطق الكرامة إلى منطق الإذلال، من منطق السلم والأمن إلى منطق حرب الكل ضد الكل والإنسان ذئب لأخيه الإنسان.

وتساءل الأمير فى مقاله المنشور اليوم في جريدة الأهرام: هل الدين يحمل طاقة وقوة هذا التحول وهل لديه قابلية استجابة لهذا الجنون السائد؟ بالطبع لا. القضية ليست قضية تأويل مغلوط للدين أو سوء استعمال لنصوصه فقط، بل قضية واقع عالمى يعانى انسدادات خطيرة نتيجة سوء إدارته. بحيث يتولد من سوء هذه الإدارة كوارث خطيرة ليس فقط على واقع البشر فحسب، وإنما على علاقاتهم وقيمهم ونمط عيشهم.

إلى نص المقال:

لم تكن القضية يوما قضية صراع دينى، بين مسيحى أو مسلم أو بوذى أو يهودى أو هندوسى، أو غيره. وإنما فى تحويل الدين إلى عصبية خائفة ومضطربة وقلقة على مصيرها ووجودها، إلى تضخيم الخوف من الآخر بمسوغات دينية، إلى تحويل المعتقد الدينى مسلكًا إقصائيًا يحصر الخلاص بمعتقد واحد ويحول الاختلاف بين البشر لمظهر لعنة وإدانة. بات الدين عموما واقعا داخل دوامة قوى الإنتاج والسوق، وتعاد صياغة قيمه وإيحاءاته بطريقة تستجيب لعالم تكثيف الإنتاج وتحفيز السوق، الأمر الذى أوقع الخطاب الدينى إما فى مواعظ شكلية وتبجيلية لا ترقى إلى مستوى التصدى لمشكلات الواقع ومحاولة ترشيده وإما فى خطب إدانة وأحكام سلبية من الواقع القائم. أى إما يكون خطابا دينيا مدجنا وإما خطابا منعزلا ونرجسيا يتفنن فى صنوف الإدانة دون أن يقدم شيئًا للعالم.

لا ننكر وجود اتجاهات عالمية تعمد إلى إعطاء القيمة والكرامة الإنسانيتين موقع الصدارة فى صناعة السياسات وترتيب الأولويات، بيد أن هذه الاتجاهات والطاقات تتعرض للاختراق السياسى من جهة والتهميش من جهة أخرى، بحكم أن الانتظام العام الذى يحكم العالم متجه نحو تركيز الثروات بيد قلة قليلة ونحو سباق التسلح، الأمر الذى يجعل الإنسان وسيلة لا غاية، ويجعل العالم محكوما لإرادات اعتباطية ومزاجية ومتقلبة لا لقاعدة أخلاقية كلية تقربنا من مبادئ الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.

العالم يتغير بسرعة ولكن للأسف فإن الاستجابة الأخلاقية والاستيعاب الإنسانى لهذا التحول يسير بوتيرة بطيئة. وهو أمر يخلق فجوة بين عولمة تتحكم بمفاصلها رأسمالية متوحشة من جهة، وبين انتظام أخلاقى مفترض للواقع يدفع به باتجاه أولوية الأمن الإنسانى بجميع أبعاده الحياتية والمعنوية والروحية.

ما قامت به السلطة فى نيوزيلندا من امتصاص تداعيات العمل الإرهابى وتأكيد التعايش السلمى القائم على قاعدة المساواة بين مكونات مجتمعها، هو أمر تقدر عليه ونثمنه كثيرا كمسلمين. 

وما فعلته دولة سريلانكا من عدم إعطاء الحدث الإرهابى ضد المؤمنين أثناء صلاتهم فى كنائسهم بعدا دينيا أو طائفيا هو أمر إيجابى وحكيم. هى مواقف نثمنها، لكنها لا تكفى لإيقاف الجنون الإجرامى، الذى يحمل خطابا قابلا للاستقطاب والتعبئة ويحمل جاذبية لدى العديد من المتهورين والمأزومين. ما نحتاجه هو تكاتف جميع الطاقات لمحاصرة خطاب الكراهية وتجفيف منابعه، ومعالجة الأسباب المؤدية إلى نشوء دوافع القتل الجماعى باسم الدين أو باسم تفوق عرقى أو ثقافى معين. 

وهى عملية تتعلق بتطوير الخطاب الدينى الذى لا يقتصر على إعلان النيات الحسنة بل يعمد إلى استعادة البعد المغيب من الوجود الإنسانى الذى تم تجريفه، وتتعلق بالذهنية الدينية التى تولى للإنسان قيمة مركزية فى تأويلاتها وفهمها، وتتعلق بصناعة سياسات الدول فى العالم التى تتعامل مع الإنسان بصفته طاقة إنتاج لا مظهر حياة خلاقة، وتتصل بالعمل على مأسسة القيمة الإنسانية، ليتحول المضمون الإنسانى من رغبة وتمنٍ إلى فاعلية حاضرة فى صنع القرار وتوجيه السلوك وتأطير الوعي والتفكير فى العالم.

القضية تتعلق بأى عالم نريد أن نعيش فيه، وبالقيم الرافعة لهذا العالم، لتعطيه معناه ودوافعه ومغازيه. فالسؤال الجوهرى الذى يسبق أى سؤال بما فيه السؤال عن حقيقة العالم الذى نعيش أو نوجد فيه هو: ما معنى أن نعيش أو نوجد فى هذا العالم؟ المسألة آخر الامر هى مسألة معنى (Meaning) لا مسألة حقائق ( Facts) فقط.