الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الغائب الحاضر.. صلاح الدين الأيوبي صاحب انتصارات رمضانية مجيدة ومصدر للإلهامات الثقافية

صدى البلد

يقترن شهر رمضان الفضيل بانتصارات تاريخية وأبطال في تاريخ الأمة كصلاح الدين الأيوبي الذي حقق أروع انتصاراته الرمضانية بتحرير القدس فيما يأتي شهر الصيام هذا العام ليبرهن من جديد على أن هذا البطل ما زال يشكل مصدر الهامات ثقافية حتى في الغرب.

وصلاح الدين الأيوبي حاضر بصورة واضحة في الثقافة الغربية حيث تتعدد الكتابات عن "بطل معركة حطين" التي وقعت في الرابع من يوليو عام 1187 الميلادي لتفضي كمعركة فاصلة وانتصار نوعي لتحرير القدس يوم السادس والعشرين من شهر رمضان عام 1188 بعد ان حرر مدينة صفد بشمال فلسطين في الشهر الفضيل ذاته ليوجه الضربة القاصمة للوجود الاستعماري للفرنجة في فلسطين.

واقع الحال إن صلاح الدين الأيوبي تحول بعد هذه المعركة الفاصلة "لأسطورة في المخيال الغربي" ووجد في الغرب من انصفه وانصف التاريخ معا باعتباره "القائد المنتصر الذي يعبر عن أخلاق الفارس النبيل" وهو ما يتجلى في الكتاب الجديد للمؤرخ البريطاني جوناثان فيليبس الذي صدر بعنوان "الحياة والأسطورة للسلطان صلاح الدين".

ولأنه تحول الى "أسطورة في المخيال الغربي" فمن الطبيعي أن تتعدد الكتابات والروايات بشأن البطل صلاح الدين الأيوبي الذي حرر مدينة عسقلان في شهر رمضان عام 1187 وانتقل للرفيق الأعلى عام 1193 ، وان تختلط فيها الحقائق مع الخيال والواقع مع الأساطير فيما تتنوع المشاعر عبر السرديات الغربية ما بين حنق وإعجاب برجل مازال يملأ الدنيا ويشغل الناس رغم انه رحل عن هذه الحياة الدنيا منذ نحو ثمانية قرون.

ورغم تحديات الحرب الشاملة ضد الغزاة الفرنجة، تؤكد دراسات ثقافية تاريخية أن صلاح الدين الأيوبي كان يولي اهتماما مميزا للاحتفالات بشهر رمضان حيث تضاء المساجد والمآذن وتعقد مجالس قراءة القرآن الكريم و"يطوف المسحراتي في الأزقة والحارات بطبلته ومصباحه".

والبريطاني جوناثان فيليبس كمؤرخ متخصص في ما عرف"بحقبة الحروب الصليبية" سعى في كتابه الجديد لفرز الحقائق وبيان الوقائع بعيدا عن الأساطير وشطحات الخيال ومساوىء التحيز ليعرض حقائق المشهد التاريخي في المشرق العربي أثناء القرنين الحادي عشر والثاني عشر، فيما يكشف عبر هذا المنظور التاريخي القائم على الحقائق عبقرية صلاح الدين سواء كمحارب عظيم أو كسياسي كبير وصاحب "رؤية استراتيجية لا تحيد عن أهدافها في ميادين القتال وموائد المفاوضات ضمن الحرب الشاملة في مواجهة الغزاة ودحر الاستعمار الاغتصابي".

ومن يقرأ هذا الكتاب الجديد سيدرك بسهولة لماذا تحول صلاح الدين الأيوبي إلى "أسطورة" فهو شخصية غير عادية بكل المقاييس ورجل جمع بين شجاعة المقاتل ورؤية الاستراتيجي وحنكة السياسي كما انه أدرك أهمية "الكلمة" في حربه الشاملة فاصطفى كوكبة من الكتاب والشعراء ليكونوا صوت المقاومة ضد الهجمة الاستعمارية التي استهدفت البشر والحجر في الشرق وكسر إرادة الأمة وهي تتخفى وراء أقنعة دينية لتزييف الحقائق.

ولا يجوز في هذا السياق إغفال ما كتبه الروائي والفيلسوف الإيطالي الراحل امبرتو ايكو الذي قضى منذ نحو ثلاثة أعوام عن البطل صلاح الدين الأيوبي . مؤكدا انه كان مثالا إنسانيا للتسامح ونبذ التعصب وهي حقيقة تجلت في حروبه ضد الغزاة الفرنجة رغم ممارساتهم الدموية وبعد تحريره القدس من القبضة الاستعمارية لهؤلاء الغزاة الذين عملوا من قبل القتل والذبح في أبناء بيت المقدس.

وقد انصف ايكو هذا البطل ليعبر عن انتصار الضمير الإنساني للمثقف الحر كما تجلى في حواراته التي تضمنها كتاب صدر بعنوان:"هكذا تكلم امبرتو ايكو" وقد ترجم مؤخرا للعربية باشراف الشاعر اللبناني إسكندر حبش.

وإذا كان الكاتب الفرنسي فولتير من أشهر فلاسفة عصر التنوير الغربي في القرن الثامن عشر، فان "صلاح الدين حاضر في مسرحية شعرية كتبها هذا المبدع الكبير بعنوان "زائير" وانتصر فيها لهذا البطل المناويء للتعصب والكراهية معتبرا انه "نموذج للتسامح والحكمة والسلام والمروءة".

وفيما قال كاتب آخر في الغرب وهو كولن تشابمان ان صلاح الدين "لقن البرابرة القادمين من الغرب درسا في الأخلاق" فان للمؤرخ المصري الكبير الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور الذي قضى في العاشر من سبتمبر عام 2009 وكان يلقب "بشيخ المؤرخين العرب" كتابات ثقافية تاريخية تشكل بحق تراثا مهما للغاية عن عصر صلاح الدين وحقيقة هذا البطل الذي تحول الى أسطورة.

ومن نافلة القول إن شخصية تاريخية بحجم صلاح الدين الأيوبي تبقى ملهمة لكتابات متعددة في الشرق كما هو الحال في الغرب فيما يبقى الفارق بينا وواضحا بين حق الاجتهاد وحرية الإبداع وبين العدوان على الحقائق او الرغبة السافرة في تحطيم الرموز التاريخية للأمة.

ومن هنا تصدى مثقفون ومؤرخون بشدة منذ نحو عامين لكاتب استخدم في سياق مقابلة تلفزيونية مفردات صادمة في حق رمز تاريخي كبير مثل صلاح الدين الأيوبي، وجددت هذه المعركة الثقافية التأكيد على الفارق الواضح بين حرية البحث وبين تحطيم الرموز التاريخية للأمة.

وهناك اتفاق عام بين المؤرخين على أن أي شخصية تاريخية "لها مالها وعليها ما عليها" غير أنه لا يجوز التهجم على الرموز او الطعن في مواقفهم دون دليل تاريخي دامغ ومن هنا تساءلت الدكتورة زبيدة عطا الله أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس :"لماذا نضرب كل الرموز والقيم الجيدة التي نمتلكها"؟ معيدة للأذهان ان صلاح الدين الأيوبي "بطل معركة حطين" شخصية تاريخية مميزة وحارب الصليبيين واسترد بيت المقدس.

وفي الاتجاه ذاته قال الدكتور أيمن فؤاد رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ان صلاح الدين الأيوبي من الشخصيات المهمة في تاريخ العالم الإسلامي فيما انتقد الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة ما ذكره الكاتب الدكتور يوسف زيدان بشأن البطل صلاح الدين الأيوبي معتبرا ان المؤرخ الحقيقي يتعامل مع اي ظاهرة بهدوء ويتحدث عنها بكل ايجابياتها وسلبياتها في سياقاتها التاريخية.

وصلاح الدين الأيوبي ابن "تكريت العراقية" والذي ولد عام 1138 الميلادي ينتمي عرقيا للأكراد كان نموذجا فذا لمعنى الانتماء للثقافة العربية بصرف النظر عن الأصل العرقي وهو الذي انطلق مشروعه التاريخي من مصر الكنانة ليوحد من جديد عدة بلدان وأمصار عربية ضمن حربه الباسلة ضد المحتل ومعاركه المظفرة التي توجت بتحرير القدس الشريف من قبضة غاصب استمر في احتلاله لنحو قرن كامل.

والأكراد وإن اختلفوا عرقيا عن العرب فهم تاريخيا وثقافيا وحضاريا في "حالة توأمة مع الأمة العربية" ومكون أصيل في العالم الإسلامي ، كما يتجلى في نموذج البطل صلاح الدين الأيوبي محرر القدس وبلد مثل مصر عرف أسماء مبدعة في مجالات عديدة من بينها الفكر والكتابة والفن تنحدر من اصول كردية مثل أمير الشعراء أحمد شوقي وعملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد.

وفيما يعد صلاح الدين الأيوبي موضع اهتمام متجدد في الثقافة الغربية ومصدر الهامات لكتابات وكتب متعددة فان المفكر البريطاني والباكستاني الأصل طارق علي كان قد أصدر عملا ابداعيا كبيرا حظي باهتمام بالغ في الصحافة الثقافية الغربية وهو "كتاب صلاح الدين" ضمن سفر "خماسية الاسلام".

وفي هذا الكتاب الذي جمع ما بين البحث التاريخي والخيال الإبداعي يمكن للقاريء أن يتذوق شهد الإبداع لطارق علي ويعيش في "قاهرة صلاح الدين" والحرب ضد المستعمر الصليبي وأفكار فلاسفة كبار مثل ابن رشد وابن سينا وابن ميمون والمؤرخ أسامة بن منقذ وعالم القرن الثاني عشر الميلادي وصراعات القوى الكبرى في هذا العالم.

والملاحظة الدالة في هذا السياق أن هذا المفكر الباكستاني الأصل الذي يحظى انتاجه الثقافي باهتمام كبير في الغرب استخدم حقه في البحث والابداع بكل الحرية والموضوعية معا عندما تناول شخصية صلاح الدين الأيوبي الذي اقترن دوما في العقل العام ووجدان الأمة بالبطولة والكبرياء باعتباره صاحب احد اهم انتصارات العرب والعالم الإسلامي على مدى التاريخ.

وهكذا فالشخصيات التاريخية مثل صلاح الدين الأيوبي الذي اعتبره الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي وول ديورانت في سفره الموسوعي "قصة الحضارة" نموذجا للعظمة والرحمة ينبغي ان تكون موضع بحث تاريخي متجدد ولكن بضوابط منهجية ودوافع ثقافية.

ومثل هذه الدوافع الثقافية لا تتضمن أبدا الرغبة في تحطيم الرموز أو إهانة الأبطال التاريخيين لأمة من الأمم كما أن أي باحث حقيقي لا يمكنه الزعم "بامتلاك الحقيقة المطلقة في عالم نسبي بطبيعته او الادعاء بأنه يمتلك اليقين بشأن شخصية في حجم صلاح الدين الأيوبي.

والأمر عندما يصل للتطاول على رموز تاريخية قد يكشف ثغرة تحدث عنها رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية الدكتور ايمن فؤاد عندما أشار الى ان "طرق النقد والمدارس التاريخية الحديثة والأدوات البحثية كلها قضايا لم تتوافر عليها دراسات شرقية متخصصة خاصة التدوين في العصور العربية القديمة والإسلامية والحديثة".

ومن قبل تحدث مؤرخ مصري كبير هو الراحل الدكتور رؤوف عباس حول "وجوب مواجهة الأهداف الظاهرة والخفية لتفكيك تاريخنا وتشويهه وتزييفه" بينما اعتبر معلقون في "خضم المعركة الثقافية حول صلاح الدين" ان الاتهامات الصادمة لهذا البطل التاريخي تدخل في سياق "تفكيك تاريخنا وتشويهه وتزييفه".

وواقع الحال ان الجدل مستمر ومن شأنه ان يستمر حول الشخصيات التاريخية مثل صلاح الدين الأيوبي مع أهمية التمييز بين حرية البحث التاريخي وخطورة التهجم على الرموز التاريخية ومحاولة تحطيمها و"ضرورة "استخدام المنهج العلمي في تناول التدوين في اطار فلسفة التاريخ والجمع بين المصادر التاريخية والأثرية وكل مايفيد في فهم الحدث التاريخي".

فلا أحد يختلف على أن ثمة حاجة لدراسات متعمقة في التاريخ برؤى وقراءات متعددة بعيدا عن الغلو في التمجيد او التسفيه والتجريح وبروح من الموضوعية ومراعاة السياقات التاريخية ومعطيات زمنها وعصرها الذي يختلف بالضرورة عن الواقع الراهن كما ان من الأهمية بمكان القيام "بزيارات جديدة للتاريخ بعيون عربية" على ان تراعي هذه الزيارات الضوابط المنهجية المتعارف عليها عالميا والتي تتجلى في كتاب مثل الكتاب الجديد للمؤرخ البريطاني جوناثان فيليبس عن صلاح الدين الأيوبي.

وصلاح الدين الأيوبي بانتصاراته الرمضانية حاضر دوما في وجدان مصر وذاكرتها الثقافية وأعمال مبدعيها وفنانيها وحتى في مبانيها كقلعة صلاح الدين التي بدأ البناء فيها في ظل هذا القائد التاريخي عام 573 الهجري.

وقلعة صلاح الدين تشهد في الأعوام الأخيرة فعاليات ثقافية وفنية دولية مهمة ك"مهرجان سماع الدولي للإنشاد والموسيقى الروحية" الذي تحول الى علامة دالة ومضيئة على الخارطة الثقافية المصرية" فيما تتفاعل الجماهير مع فنون وثقافات الدول المشاركة في هذا المهرجان من شتى انحاء العالم ليتجلى المعنى الكبير للثقافة بأطيافها المتعددة والوانها المدهشة في هذا المكان المدهش.

وإذا كان فيلم "الناصر صلاح الدين" الذي أخرجه الراحل يوسف شاهين عرض لأول مرة في عام 1963 وقام فيه الفنان الكبير الراحل زكي طليمات بدور "الدوق آرثر" فإن هذا المبدع المصري الذي قضى في أواخر عام 1982 قدم سيرة صلاح الدين في عملين أحدهما للمسرح والآخر للإذاعة.

وهذا الفيلم الخالد في تاريخ السينما المصرية اشترك في صنعه كوكبة من اهم المبدعين المصريين فالى جانب المخرج يوسف شاهين الذي قضى في عام 2008 تولى الأديب الكبير يوسف السباعي كتابة القصة بينما كان النوبلي نجيب محفوظ ضمن من شاركوا في معالجة القصة سينمائيا ومعه الراحل العظيم عبد الرحمن الشرقاوي فيما قام الفنان الكبير أحمد مظهر بدور صلاح الدين مع نخبة من الممثلين مثل حمدي غيث ونادية لطفي وليلى فوزي ومحمود المليجي.

وصلاح الدين حاضر في إبداعات شعراء مصريين عظام كالراحل أمل دنقل الذي أبدع قصيدة "لا وقت للبكاء" يوم رحيل الزعيم جمال عبد الناصر في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970 حاملة دلالات عبقرية لاستشراف المستقبل ونبوءة النصر التي أطلقها شاعر من قلب مصر المكلومة فى ساعة الحزن العظيم ليتشوف حينئذ الفجر القادم بعد نحو ثلاث سنوات.

فمن قلب الحزن العظيم ومتكئا على التاريخ ساعة الرحيل المباغت لجمال عبد الناصر يطلق أمل دنقل نبوءة التحرير والنصر ويقول :"والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد المحزون..لقد رأيت ليلة الثامن والعشرين من سبتمبر الحزين..رأيت فى هتاف شعبى الجريح..رأيت خلف الصورة وجهك يا منصورة..وجه لويس التاسع المأسور فى يد صبيح...رأيت فى صبيحة الأول من تشرين..جندك يا حطين..يبكون لا يدرون ان كل واحد من الماشين فيه صلاح الدين"!.