الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

من أحمد خالد توفيق إلى لينين الرملي .. كيف تعامل المبدعون مع آلامهم

شريف مدكور
شريف مدكور

بقدر ما ينطوي عليه ألم المبدع من أحزان، فإنه قد يكون دافعا لمزيد من الإبداع كما تكشف استجابات المبدعين في مصر والعالم ككل لتحديات المرض وآلام الفقد عن حقائق ملهمة في مواجهة محن كمحنة المرض.

وفي الآونة الأخيرة توالت أنباء حول مثقفين ومبدعين وإعلاميين يصارعون المرض مثل الكاتب لينين الرملي والإعلامي شريف مدكور والمخرجة سميحة الغنيمي التي توصف "بشاعرة السينما التسجيلية" التي نالت جائزة الدولة للتفوق في الفنون عام 2016 .

ولينين الرملي الذي يعاني المرض منذ سنوات ولد يوم الثامن عشر من أغسطس عام 1945 بالقاهرة وشكل مع الفنان محمد صبحي "ثنائيا فنيا" كتب اعمالا شهيرة في المسرح المصري مثل :"تخاريف" و"بالعربي الفصيح" و"انتهى الدرس ياغبي" و"اهلا يابكوات" و"وجهة نظر" و"الكابوس" و"الهمجي" ، ومن أعماله التي كتبها للسينما :"الإرهابي" و"بخيت وعديلة" و"البداية" كما نجحت كتاباته لمسلسلات تلفزيونية مثل : "هند والدكتور نعمان" وحكاية ميزو" و"مبروك جالك ولد".

وإذ طالب الكاتب الصحفي الكبير صلاح منتصر بتكريم لينين الرملي الذي وصفه "بالمبدع الحقيقي"، لافتا إلى أنه "يرقد صامتا في أحد المستشفيات" أعلن الفنان احمد عبد العزيز رئيس المهرجان القومي للمسرح المصري أن الدورة الثانية عشرة لهذا المهرجان ، ستشهد استحداث مسابقة وجائزة دائمة في التأليف المسرحي تحمل اسم "لينين الرملي" تقديرا لهذا المبدع المصري واسهاماته في الكتابة التي اثرت المسرح ومسيرته الأدبية والفنية الحافلة على مدى نحو نصف قرن.

وقد يكون الألم ومحنة المرض سببا لمزيد من العطاء كما كشف الإعلامي شريف مدكور في مقابلات تلفزيونية حيث اصر على مواصلة عمله رغم إبلاغه بحقيقة مرضه كما ان "الفقد" قد يكون سببا للكتابة والابداع كما اشار الأديب اللبناني احمد علي الزين موضحا ان الفقد يجعلنا في حالة من الشوق "تدفعنا للتبليغ عن شييء ما".

والكاتب المصري الدكتور احمد خالد توفيق الذي ذاع صيته في "ادب الرعب والخيال العلمي" وحلت امس الأول "الاثنين" الذكرى السابعة والخمسين لمولده كان من المبدعين الذين اهتموا بفكرة الفقد، واخر ما كتبه قبل رحيله عن الحياة الدنيا رواية بعنوان دال هو :"افراح المقبرة"، فيما فسر هذا الاهتمام بأنه "حفاوة بالموت" وهو الذي رأى ان "الموت يختار ببراعة.. يختار الأفضل والأنبل والأشجع" .

وأحمد خالد توفيق الذي ولد في العاشر من يونيو عام 1962 وقضى في الثاني من ابريل عام 2018 له رواية بعنوان "قهوة باليورانيوم" اعتبرها البعض انها حملت نبؤة بموعد وفاته ودفنه مستشهدين بقوله في هذه الرواية :"اليوم كان من الوارد جدا ان يكون موعد دفني هو الأحد 3 ابريل بعد صلاة الظهر..اذ كان هذا هو الموت بدا لي بسيطا ومختصرا وسريعا".

لكن الأمر ليس بهذه البساطة عند كثير من الناس حيث يقترن الفقد بالخوف ومن هنا باتت كتابات الفيلسوف الفرنسي لوك فيري وهو وزير سابق للتربية والتعليم تلقى اقبالا كبيرا من القراء لأنها تساعدهم في قهر مخاوفهم التي تشل الحياة.

وهذا الفيلسوف الفرنسي الذي ولد عام 1952 يعرف "بفيلسوف الخلاص" وهو من الفلاسفة الجدد الذين ينتهجون خطابا مبسطا في تحليل القضايا الراهنة لانسان هذا العصر بعيدا عن التعقيد واللغة التي لايفهمها سوى الخاصة ، فيما رأى "فيلسوف الخلاص" لوك فيري ان الحكيم هو الشخص الذي لم يعد يخاف الموت.

وإذ يتطرق الكاتب اللبناني الأصل والروائي الكبير أمين معلوف في كتابه الأخير "غرق الحضارات" لأيام الصبا التي عاش بعضا منها في مصر باعتبارها الوطن الذي ولدت فيه أمه فيما تزوج والداه في القاهرة عام 1945 فان هذا المبدع الذي يعيش في فرنسا منذ عام 1976 يشير في كتابه الأخير لألم الفقد عندما مات والده بفعل صوت انفجار قوي ابان الحرب الأهلية اللبنانية.

وعن أحزان الفقد ، استعادت الكاتبة الدكتورة نوال السعداوي نبأ تلقيها في كندا لخبر وفاة المبدع الكبير توفيق الحكيم الذي قضى عام 1987 بالقاهرة، فتقول :"كنت في بلاد تغطيها الثلج فوق جزيرة بالمحيط الأطلنطي جنوب كندا حين قرأت نعي توفيق الحكيم..جلست وحدي فوق الصخرة ورذاذ الأمواج يضرب وجهي ورذاذ الثلج يتساقط فوق رأسي ودرجة الحرارة عشرين تحت الصفر لكني لم اشعر بالبرد وادركت لحظتها ماهو الحزن".

وفي تعبير صريح عن ألم الفقد ، قال مثقف مصري كبير وعالم اقتصاد بارز هو الدكتور جلال أمين الذي قضى في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر الماضي في طرح مؤثرعن شقيقه حسين أمين الذي سبقه في الرحيل عن الحياة الدنيا "فقدت بفقده اخر اشقائي السبعة وكنت في السنوات الأخيرة حتى وهو في حالة ذهنية محزنة اتمسك به كما يتمسك الغريق بآخر طوق للنجاة يمكن ان يعلق به وقد انتزع مني هذا الطوق فما أشد حزني عليه".

وبكلمات مؤثرة حقا استعاد مثقف مصري كبير هو وزير الثقافة الأسبق والأكاديمي والكاتب الدكتور جابر عصفور فاجعة رحيل ابنته الدكتورة سهير عصفور مدرس الأدب السباني في جامعة حلوان عام 2007 ليقول ان "الوفاة كانت مفاجأة ومأساوية أطاحت بما في عقلي من توازن ومافي روحي ونفسي من تماسك فأنهرت مفجوعا غير مصدق مضيفا انه حينئذ "لم يعد يعرف مايفعله في حياته".

لكن الدكتور جابر عصفور يؤكد فضل أصدقائه الأوفياء في تجاوزه لهذه المحنة لينهمك في أعمال تخرجه من الحال الذي كان فيه بعد فقد ابنته ويقول :"الحياة لابد ان تستمر والأحزان لابد ان تطوى ولولا الموت وهو الحقيقة الوحيدة المؤكدة التي لاشك فيها ما كان للحياة معنى وما امتلأت حياتنا نفسها بذكرى الراحلين الذين يتحولون الى دافع لنا على الحياة من ناحية واستكمال الرسالة التي بدأوها من ناحية موازية"".

وفي كتاب :"رجال عرفتهم" توقف المفكر الراحل عباس محمود العقاد مليا في سياق تناوله لشخصية الشيخ علي يوسف أحد رواد الصحافة المصرية عند واقعة رثاء ولده الوحيد يوم تشييعه لمثواه الأخير بكلمات يصفها عملاق الأدب العربي بأنها "بلاغة الشجن" فيما كان قد كتب خبر وفاة فلذة كبده بقلمه وهو يمحو سطوره بدموعه.

لكن الشيخ علي يوسف كان يصر على استكمال خبر وفاة ابنه بقلمه وكذلك مقالة الرثاء رغم كل الألم الذي يعتصر القلب والروح وكأنه يدرك انها معركة بناء الذاكرة الخاصة بأعز شخص في وجوده!.

ولئن كان الشاعر المصري الكبير أمل دنقل الذي قضى في الحادي والعشرين من مايو عام 1983 ليرحل مبكرا عن 43 عاما قد حول معاناته مع المرض القاتل لتجربة إبداعية في مجموعته الشعرية الأخيرة "أوراق الغرفة 8" فان الكاتب الاسكتلندي الراحل إيان بانكس أصر على استكمال قصة بعنوان "الفريسة" وهو يحتضر في مواجهته الباسلة لمرض السرطان اللعين وهي في حد ذاتها قصة مبدع في لحظة مواجهة مع هذا المرض.

وهذا الكاتب الاسكتلندي المبدع الذي قضي في التاسع من يونيو عام 2013 عن عمر يناهز 59 عاما اختار أن تكون آخر كلماته على لسان بطل القصة :"فليحاربني السرطان كما يشاء لكنني سأهزمه بقلمي" فيما عمد للسخرية من المرض اللعين الذي حتى لو نجح في ان يكتب اسمه ضمن عداد الموتى فانه لن ينجح ابدا في ان يغيبه عن هؤلاء الذين احبوه وكأنه يشير الى ان حياته يمكن ان تستمر عبر هؤلاء الأحباب.

والأمر قد يعيد للأذهان ماورد في كتاب "ستيف جوبز.. السيرة الحصرية" لوالتر ايزاكسون الذي كتب والتر ايزاكسون هذه السيرة بناء على تكليف من الأمريكي ستيف جوبز ذاته قبل رحيله عن الحياة الدنيا يوم الخامس من أكتوبر عام 2011 فيما جاءت السيرة امينة وصريحة دون ان تخفى اى عيوب فى شخصية هذا العبقرى السوري الأصل وصاحب الاسم الخالد في عالم الحاسوب.

وبقدر ما أوضحت هذه السيرة جوانب عبقريته واوجه عظمة الارادة الانسانية في مواجهة محنة المرض الذي التهم مخ العبقرى فى نهاية المطاف لن تموت رسالة رجل اراد تغيير العالم للأفضل وكانت وصيته لكل الحالمين العاملين فى الاتجاه ذاته ان يتسلحوا بالارادة والحلم وان يكتفوا برعشة الدهشة ولذة الاكتشاف فى مواجهة متاعب الدنيا.

وإذا كان الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش الذي قضي في شهر أغسطس عام 2008 على يدفن في مدينة رام الله وتكتب على قبره عبارته الشعرية:"على هذه الأرض مايستحق الحياة" ، فان المنتج السينمائي المصري الأصل صلاح حسنين الذي قضى يوم الجمعة الماضية في كاليفورنيا عن عمر يقترب من قرن بأكمله عرف في هوليوود بأنشطته الخيرية التي تعبر عن قيم واخلاقيات وطنه الأم ومسقط رأسه في الإسكندرية.

وفي قلب محنة المرض اصدر الأكاديمي والناقد الأدبي الراحل الدكتور سيد البحراوي كتابا بعنوان "في مديح الألم" طرح فيه فلسفته في التعامل مع لآلام المرض الخبيث الذي عرف في نهاية عام 2014 انه حل برئته غير ان هذا المثقف الوطني المصري الذي قضى في السادس عشر من شهر يونيو عام 2018 حول المرض لفرصة لتأمل الألم كقرين للحياة.

فالألم جزء لايتجزأ من الحياة ولكن سيد البحراوي الذي قضى عن عمر يناهز الـ 65 عاما لتفقد الثقافة العربية احد المع نقادها اضاف الى هذه الحقيقة ان الجهد البشري كان منصبا طوال التاريخ على مقاومة الألم وان المعارف التي انتجها الانسان من علم وفلسفة تهدف في احد جوانبها الى هذه المقاومة ورأى في سياق تأمله العميق وهو يعاني المرض ان الألم دفع البشر الى الابداع العلمي والفلسفي والفني.

ولذلك ظل البحراوي مبدعا في هذا الكتاب مثلما كان في كتبه وابحاثه ومحاضراته ومقالاته رغم انه يفاجيء القاريء في الخاتمة بأنه كان يكتب ماتضمنه من نصوص لنفسه كوسيلة علاجية تشارك في معركة مقاومة المرض وهو يقدم بالفعل

تجربة في مقاومة المرض وكيف يمكن للانسان ان يعتمد على مافي داخله من طاقة ابداعية تختلف من شخص الى اخر في هذه المقاومة.

وهاهي الكاتبة الروائية البريطانية الشهيرة هيلاري مانتل البالغة من العمر نحو67 عاما تقول ان مشكلتها لم تكن ابدا الأفكار وانما هي الزمن معتبرة انها عاشت "حياة من الألم" جراء مشاكل صحية لاتنتهي وهي التي حصلت على جائزة بوكر الأدبية المرموقة مرتين الأولى في عام 2009 عن روايتها "قصر الذئاب" فيما ظفرت بالجائزة للمرة الثانية عام 2012 عن روايتها "اخرجوا الجثث".

ومع تسليمها بأن أحوال العالم ليست على مايرام تقول الكاتبة الباكستانية الأصل والبريطانية الجنسية كاميلا شامسي :"علينا ان نبحث عن أسباب للتفاؤل" فيما ترى صاحبة رواية "حريق في البيت" أن الطبيعة الإنسانية لاتخلو من خير يثير التفاؤل.

وها هي الشاعرة السودانية امتثال محمود التي تحظى بحضور ثقافي في الغرب تقول ان الكتابة تساعدها على مواجهة الأوقات الصعبة مشيرة الى ان قصيدتها "ماما" التي ابدعتها بالانجليزية خففت عنها عبء لحظات عصيبة عندما ماتت جدتها فيما كانت أمها تستقل طائرة لحضور الجنازة في أرض الوطن.

ولعل قصة فنانة عظيمة مثل انجلينا جولي التي تبلغ من العمر 44 عاما توميء لألم المبدع الذي ينطوي دوما على رسائل واشارات ايجابية تضيء معنى ومقاصد الابداع رغم مرارة الألم او وطأة المرض أو حتى الفقد المرير.

فبعد ان أعلنت في عام 2013 عن حقيقة مرضها الخطير ليتابع الملايين حول العالم بقلق تطورات الحالة الصحية للنجمة الهوليوودية فان هذه الفنانة الأمريكية لم تكف عن أنشطتها الانسانية والخيرية ونالت ماتستحقه من احترام وتقدير البشر في هذه الدنيا الواسعة لتلهم كفنانة مبدعة كل الذين جرحتهم الأيام او ادمت الآلام قلوبهم!.