الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مارك كاسترو يكتب: رأيتُ فاروق

صدى البلد


قبل أشهرٍ، ذهبتُ و أصدقائى لمشاهدة عرض #الملك_لير من إنتاج ‘كايرو شــو‘.. وعلى الرُغم من أن العرضَ محفوظٌ نصُّه و محتواه، بل و قديمٌ قِدم الأدب الإنجليزى ذاته، إلا أن ثمةَ سببٌ واحدٌ جعلنى شغوفًا بالحضور..بالطبع كنتُ أرغب فى متابعة مراحل جنونِ هذا الملك التعِس، التى يجسّدها #الفخرانى ببراعةٍ يحسده عليها لورداتُ المسرح الإنجليزى أنفسُهم .. و كأن شكسبير قد كتبها من أجلِه ... كما أنى رغبتُ فى مشاهدة المسرحية من إخراج المبدع #تامر_كرم ، الذى ضمّ شبابًا من قبل إلى مسرحِه فجعل منهم نجومًا، و ضمّ نجومًا إلى هذا العمل .. فبلغ بهم سُدة الخلود...

لكنى ذهبتُ لسببٍ آخر تمامًا ...

أنا ذهبتُ لرؤية #فاروق_الفيشاوى على المسرح! 

جوكر هذا العمل و حِصانه الرابح بلا منازع، و الذى إليه تُنسب الحصةُ الوافرة من رصيد نجاح هذه المسرحية.. نعم، ذهبتُ لأرى الرجلَ الذى حارب سرطانـ(ـه) بالفن، و جاوز الألمَ بالأمل، و تمرّد على وهن الجسد بروحٍ عصيّةٍ على الكسرِ..
نعم، ذهبتُ لأشاهده فى دور ‘جلوستر‘ ؛ الدوق المعذّب بين وفائه لمليكِه المخدوع، و وقوعه هو نفسه فى أسر الخديعة على يد ابنه العاق ؛ إذ لم يتبيّن المساحة الشاسعة التى تفصل بين البر و العقوق.. فـجلوستر؛ رجلُ الدولةِ و البلاط، الذى لما كان مفتوحَ العينين لم يرَ الحقَ، وهو الجليّ جلاء شمس الظهيرة ، لكن لما قُلِعت عيناه، و واجه ظلامَ الدنيا بدونهما ... أبصر!

دورٌ كان جديرًا بفاروق الفيشاوى أن يختتم به حياتَه ... و ما أجمل أن تكون آخر طَـلّةٍ للفنان على جمهوره من فوق خشبة المسرح؛ قدس أقداس الفنون و حَجر زاويتها.. و " حَتى يَكُون الوَدَاعُ جَمِيلًا.. وعَكْسَ اللِقَاءِ " على حد قول درويش فى قصيدته...

كانت هذه هى المرة الأولى التى أراه فيها وجهًا لوجه؛ رجلٌ طويل القامة إلى حدٍ بعيد، و ممشوق الجسد بغير انحناءة، كشجرةٍ تغالب فروعُها عنفوانَ الريح.. و لا عجب فى ذلك و قد ادّخرت له السينما الأدوارَ الأولى لعقدين أو يزيد.. رأيتُ ‘ جان ‘ السينما الذى وقعتْ فى حبِه نجماتُ الصف الأول فى الثمانينيات، رأيته و هو يتقدّم بخطىً وئيدة نحو السبعين من العمر، بنضجٍ فى الأداء يبلغ ذروته، و بعشقٍ للعمل يليق بمحاربٍ عنيد قاوم سُلطانَ المرض الخبيث حتى دقة القلب الأخيرة... 

هالنى مشهدان فى العرض كان هو ركيزة نجاحِهما. الأول حين خرج جلوستر يتحسس طريقَه بعد فقدان البصر، و قد اقتربتُ من الصفوف الأولى مستعينًا بنظارةٍ مكبرة اشتريتها لهذا الغرض، حتى أتحقق من كُنه هذه الضُمادة البيضاء التى تلفُّ رأسه، وعما إذا كانت بالفعل تغطى عينيه أم لا.. لأتأكد بالحقيقة أن الرجل قدّم مشهدًا عبقريًا من نفائس التراجيديا أبكى به الجمهور مستقطبًا تصفيقَهم و دموعَهم و تنهدّاتهم .. و هو معصوب العينين ، لا يراهم ... 

ثم يأتى مشهَدُه الختامىّ؛ لحظةُ التنوير التى سيبلغها بمقلتين فارغتين من النور.. حين يتعرّف على ابنه الآخر المطرود من حِضنه جورًا و افتراءً.. فيحتضنه و إذا بنا نجده يصرخ صرخةً تتنبه لها الملائكةُ فى سماواتها، من فرط قوتِها.. و صدقِها! إنها صرخةٌ تخرج من قلب فنانٍ تنفطر كلُ جوارحِه على المسرح، فى لحظة انصهارٍ مع الشخصية قد يمضى الأكثرون جُلّ مشوارهم الفنى دون أن يبلغوها..

لن أنسى هذه الصرخة أبدا..
أبدًا ...

من يدرى أى الكلمات تبلغ مسامع الذين رحلوا؟ فلنجعلها كلها إذًا طيبة .. و إذ لم يمهلني القدرُ فرصةَ قول هذه الكلمات فى حياته، فلأجعلها شاهدًا عند قبره، أو زهرةً تنمو فى بستان أحبائه..

وداعًا أيها الدوق النبيل .. وداعًا ...