الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد صابر يكتب: "مناوشات فلسفية" (الفردية _Individualism )

أحمد صابر
أحمد صابر

في هذه السلسلة من المقالات بعنوان "مناوشات فلسفية" نستعرض مع حضراتكم أهم المفاهيم التي طويت في صحائف الأيام، واندثرت في سلة المهملات ووُضعت علي أرفف الأوهام، نتيجة عدم الفهم المتقن لمعانيها المروية ومقاصدها المعنية، في العموم المطلق، نجد أن كل ما يتعلق بالفلسفة أصبح محل تهميش وازدراء، عن قصد وبدون، ليظل الناس محجوبين عن كل ما يحرك غرائز العقل نحو التفكير الموضوعي المتزن، حتي غدت الفلسفة _علي نحو غير مسبوق_من المصطلحات التي تستخدم علي سبيل السبة والاتهام بعد أن عنت الحكمة في القرون الماضية.

إن الفلسفة لها دور عظيم في نهضة الأمم وخروجها من أنفاق الظلام وبراثن الجهل إلي أبراج النور وسحائب العلم، والأمة التي تحتقر الفكر وتحاربه تظل تتعثر بين الحفر طيلة حياتها، هذا إن بقيت علي قيد الحياة.

هذه المقدمة بغرض تذكير القراء بقيمة ما نتكلم عنه، وأهمية تجديد هذه المصطلحات علي واقعنا وفي مستقبلنا علي حد سواء، فاعتلاء المدلسين لمنصات الحديث وانتشار المخربين في أي مجتمع مقترن تمامًا باندثار الفلسفة ومحاربة العلم.

في البداية، يجب التنويه بأن مناقشة المفاهيم الفلسفية والأيديولوجيات الحركية لا يمكن نزعها من سياقها الزمني والتاريخي الذى نشأت فيه، لأن تجريدها من هذه العوامل ينم عن دراسة مخلة قد تؤدي بالضرورة إلي إطلاق حكم عشوائي، في حديثنا اليوم نتناول مصطلح "الفردية" والذي يحتل المركز الثاني بعد "الحرية" في المنهج الليبرالي عمومًا والليبرالي الكلاسيكي علي وجه الخصوص، الفردية تعني أن لكل إنسان كرامته الخاصة التي لا يجوز العبور من فوقها أو تغبيرها بأقدام الحاكم في سبيل المصلحة العامة للمجتمع.

لكن هذا المفهوم ليس ثابتًا علي هيئته منذ نشأته وحتي الآن، بل مر بعدة تجارب وتناوله عدد من الفلاسفة حتي تطور بمرور الزمان، وهذه طبيعة الفكر البشري، يظل في تحديث مستمر يقترن بالواقع الذي يتواجد فيه، فعند ميلاد الفكر الليبرالي بعد الثورة الفرنسية أخذت الليبرالية القالب المكاني والثوري الذي نشأت لأجله، فنلاحظ مثلًا أن الليبرالية الفرنسية التى ظهرت نتيجة الظلم والإستبداد كانت عنيفة جدًا مقارنة بالليبرالية الإنجليزية التي ظهرت لمجرد صراع بين الطبقات الراقية.

ولذا، فعند قراءة الأدبيات الأولي للفكر الليبرالي خاصة ما وضعه الفلاسفة الفرنسيون ك "Rousseau" تجد مبالغةً في تناول مصطلح الفردية، وإعلاءً غير محدد بشروط من قيمة الفرد علي حساب المجتمع ككل، حيث جعلوا الفرد هو الغاية من الحرية، وأعطوه الحرية المطلقة، وهذا أمر طبيعي في سياقه التاريخي، لكن الغريب أن يتم تداول هذا المصطلح في سياقنا الزمني الآن بمعناه القديم وذلك باعتبار القديم مرجعًا مقدسًا لمصطلح الفردية دون اهتمام بالتغيرات الطارئة عليه، فالواقع اختلف كثيرًا عما كان عليه، وبالتالي فإن هذه المفاهيم قابلة للتطور بما يناسبنا الآن، ولا يمكن أن نتناول جزءًا من التعريف ونهمل الآخر، فقد ظهر فلاسفة الإنجليز وعدلوا هذه المفاهيم لتصبح أكثر واقعية مما كانت عليها، حيث شرعوا بتغيير مفهوم الحرية إلي الحرية الإيجابية أو الحرية المسؤولة، وبالتالي أصبحت الفردية أقل شمولًا من معناها القديم.

فإذا أردنا أن نعطي الفردية تعريفًا جديدًا فربما تصبح في نظري "عدم المساس بكرامة الإنسان وعدم الأخذ من حقوقه الشرعية في سبيل مصلحة عامة، وإذا كان لابد من ذلك، فيجب تعويضه بنفس ما أُخذ منه، بحيث لا يكون الفرد فوق المجتمع، ولا يكون المجتمع عدوًا للفرد"، ويمكن القول بأن هذا التعريف يقترب بعض الشيء من قواعد الليبرالية الإجتماعية التي خرجت من رحم الليبرالية الكلاسيكية بشكل أكثر تطورًا..

ولكي نقارب هذا التعريف إلي الأذهان سنناقش مثالًا من واقعنا الآن..

ما يحدث في جزيرة الوراق مثلًا، البعض يري ضرورة ترحيل أهلها في سبيل المصلحة العامة، لكن في الليبرالية هذا لا يجوز علي الإطلاق، إلا في حالة أن تعوض هؤلاء الأفراد بنفس ما أُخذ منهم في سبيل هذا الصالح العام _كما أوضحنا في التعديل _وألا تُبخَس حقوقُهم الشرعية، وهذا ما نأمله من حكومتنا وما نرجوه من سيادة الرئيس، بأن يتم تعويض الأهالي بما يعادل ممتلكاتهم علي هذه الجزيرة، وأن يتم التوصل إلي تسوية ما في حال حتمية تنفيذ المشروع.

في نهاية المقال، لابد من الاعتراف والتسليم بأن الليبرالية حركة مرنة يمكن معالجة مفاهيمها الفلسفية الجامدة لتناسب أعراف المكان وثقافة المجتمع المرتبطة بظرف الزمان، هذا المصطلح الذي ناقشناه بالذات يعد من أكثر المفاهيم التى يتم تناولها بجمود، باعتبار أن الفردية تعطل المصالح العامة وتعطي السلطة المطلقة وغير المسؤولة للفرد، لكنني لا أجد تعارضًا بين الفردية والمصلحة العامة، إذا ما أعطينا الفرد حقوقه كاملةً دون الجور عليه، مع ضرورة تقديم الصالح العام.