الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

رضا نايل يكتب : صباح الخير

الكاتب الصحفي رضا
الكاتب الصحفي رضا نايل

في كل مرة كانت تضع فيها خدها على قبضة يدها ثم تطأطئ رأسها وهي تنظر نحوي من طرف خفي من وراء شاشة الكمبيوتر، كنت أخاف أن أتنفس حتى لا تطير كعصفورة صغيرة تشعر بالخطر، بل أغمض عيني حتى تقترب تلك العصفورة وتقترب فأشعر بها تستقر على كتفي ، فتجتاحني لذة تنساب من أعماقي حتى الأطراف، فأتحرّر من قوانين الجاذبية وأصبح ظلالا وألوانا، وفجأة أفتح عيني لأتأكد أنني هنا أجلس على الكرسي، فتلتقي نظراتها المُخْتَسلة مع نظراتي المباغتة على حافة شاشة الكمبيوتر الفاصلة بيننا وكأنها سلسلة جبال، فإذ بابتسامة تنبت في شفتيها القرمزيتين، وبضوء خاطف يتوهج في مقلتيها الناعستين، فأطير في السماء مع سرب حمام، ثم أسقط وأسقط نحو الكرسي ولا أشعر بأي ألم، بل باللذة التي نتذوقها في تلك اللحظة الفاصلة بين الخيال والواقع حيث تكون الحواس بكرًا طاهرة.
ولكن هذا الصباح أخرجتني ابتسامتها من شرنقة الصمت، فقلت وابتسامة مترددة ترتسم على وجهي:

- صباح الخير
تغير وجهها بسرعة كسماء الخريف، فغابت ابتسامتها وراء الغيوم التي غطت صفحة وجهها، وردت في لامبالاة وفتور:
- صباح الخير
عبثت يدي في شعري الذي قضيت ساعة في تصفيفه، وبدت على وجهي أمارات الضيق والغضب، وسرت داخلي رغبة جامحة في أن أوجه لها سبابًا بذيئًا وأنا أخطو نحوها، ولكن تلك الخطوة الفاصلة بيننا كانت طريق خطر ممتدًا بلا نهاية، فاصطنعت ابتسامة وسألتها بشيء من الحدة:

- هل أزعجتكِ 
أجفلت وهي تقول بصوت ملؤه الحزن والألم :
- أنت تزعجني دائمًا
جمّدت كلماتها الدم في شراييني فصار جسدي من حجر أو خشب، ثم أخذت شهيقًا عميقًا لألملم ذاتي المُبعثرة داخلي، ولا إراديًا مددت ذراعي لأجلب كرسيِّ، وجلست جوارها.
تساءلت في دهشة واستغراب :
- ماذا تفعل؟!
أجبتها بصوت مرح، وأنا أحدق في خلفية الشاشة، التي كانت رسمًا بالقلم الرصاص لشخص لو اكتملت ملامحه لظننت أنه أنا:
- أسبّب لكِ مزيدًا من الإزعاج 
حاولت استعادة ابتسامتها من وراء غيوم الخريف التي صارت أكثر قتامة، وهي تقول في وجوم ويأس:
- أنت لا تزعجني الآن، بل تصب في روحي مادة كاوية 
أحسست أن قلبي يحاول جاهدًا أن ينبض، وكأنه ينبض من بين حجري رحى وليس ضلوعي ، وقلت بوجه خالٍ من أي تعبير، وأنا أبتلع ما بفمي من لعاب، ليغادر صوتي حنجرتي:
- وماذا عليِّ أن أفعل
أجابت بصوت مُتهدج:
- ابتعد
هممت بالقيام، وإذ بها تضع يدها على ركبتي قائلة في قوة وضعف، وشدة ورقة:
- ابتعد.. وأنت في مكانك
سرت داخلي رجفة عنيفة تغلغلت حتى أوصالي، وتقاطرت حبات العرق البارد على ظهري، وتحول وجهي للون الأرجواني وكأني محموم، فقد روعتني تلك الكلمات التي فرّت هاربة من بين شفتيها.

بينما أخذت هي تضرب فخذيها بأناملها ضربات خفيفة مُتلاحقة، وقد قَطَبَت جبينها حتى تلاصق حاجباها، وبدت خطوط رفيعة في وجنتيها وكأنها تجاعيد، وعيناها معلقتان بي، تعلق الضائع في فلاة بالسماء راجيًا النجاة الربانية، وأنا في تلك اللحظة كنت وليدها الذي ينتظر أن تعلمه الكلمات، فقد أصبحت ذاكرتي ذاكرة طفل رضيع لا تحفظ غير وجه أمه، لذا طال صمتي وكان سيطول، فأحيانا الكلمات المفاجئة تُصيبنا بالخرس، لولا أن تجمعت في مقلتيها دمعة رقراقة كانت القطرة الأولى التي بدأت بعدها غيوم الخريف المحملة بصمتي تمطر وجهها بدموع ساخنة، ولكن قبل أن تسقط على وجنتيها كأحجار صغيرة سقطت في قلبي كصخور كبيرة، فماجت مياهه الراكدة، فوجدتني أُقبل يدها، وعيناها الصافيتان المُبللتان بالدمع كالسماء بعد هطول المطر تضحكان.

رضا نايل