الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فدوى عامر تكتب: هايبر ماركت

صدى البلد

كان ذلك الهايبر ماركت الكبير وجهتها شبه اليومية لشراء مستلزمات السكان. صغيرة هي في الحجم رغم أعوامها الأربعة عشر.. بضفائر مشعثة وفستان قديم في الأغلب ممزق جادت به إحدى هوانم العقار الذي تعمل بها أمها حارسة منذ أن كانت هي طفلة صغيرة. 

جاءت بها أمها الشابة هي وإخوتها من الأطراف الريفية للمدينة بعد أن توفي الأب في حادث ولم تجد لأولادها معين ولا معيل سوى الله وعمل يديها. اعتادت الابنة منذ طفولتها الخروج لقضاء حوائج السكان بعد انتهاء دوامها الدراسي، فكانت تقوم بشراء الخضروات أو الخبز أو البقالة أو حتى توصيل الملابس لمحل التنظيف الجاف الذي يقع على ناصية الشارع ثم تمر على شقق العقار شقة شقة لجمع أكياس القمامة. بعد انتهاء يومها لم يك يتبقى لها وقت في الأغلب سوى للاستذكار في ركن تلك الغرفة الصغيرة القابعة في درك البناية السفلي.

كانت دائما ما تجول بها أفكارها وهي ممسكة بكتابها فتتذكر رحلتها شبه اليومية إلى هذا الهايبر ماركت ذي الأقسام المتعددة: قسم للسلع المعمرة كانت تمر من خلاله للوصول الي وجهتها وهو قسم الأغذية، مرورًا بقسم الأدوات المنزلية وقسم المنظفات ثم قسم الإلكترونيات. كانت مفتونة بقسم الأغذية ذي الكم الهائل من البضائع والسلع ما بين الطازج من خضروات وفواكه وألوانها الزاهية.. والمحفوظ ذي الأغلفة الملونة اللامعة والمرصوص بعناية على الأرفف الكثيرة المتجاورة. كانت عيناها تزوغان بين الأرفف العالية.. وهي قابضة على قائمة الطلبات بكفها الصغيرة. 

كان السكان يعلمون قدراتها المحدودة فلا يطلبون منها سوى شراء البقالة البسيطة مثل الجبن والحلاوة والزيتون وما شابه.. أو بعض المنظفات والبقالة الجافة. وكانت هي قد اكتسبت خبرة كبيرة نتاج هذا التدريب شبه اليومي. فكانت تجيد إنهاء عملية التبضع في زمن قياسي. ولم يكن يتبقى لها في النهاية سوى الوقوف في طابور الكاشير لإتمام عملية الشراء. كانت تستغل فرصة وقوفها تلك لتشمل تلك الصفوف المتجاورة على الجانبين بنظراتها المودّعة. كانت تتأمل كل تلك الأنواع الغريبة من المأكولات والحلويات في شغف وتتساءل عن اليوم الذي ستتمكن فيه من ملو إحدى عربات التبضع عن آخرها بكل ما تشتهيه نفسها عوضًا عن تلك السلة الصغيرة التي تحملها ولا تخصها. كانت أثناء وقوفها تتلمس تلك الاغلفة المتراصة بأناملها الصغيرة على استحياء احترامًا لمصروفها الصغير الساكن في باطن محفظة نقودها التي أعطاها لها أحد السكان بعد أن اشترى محفظة جديدة.

وتمر السنون وتنجح هي في الحصول على دبلوم التجارة الذي يؤهلها للعمل في محل ملابس ليس بقريب ولكنه ملك لأحد أقارب ساكن خدوم من السكان. كانت تمر في طريق ذهابها وعودتها أمام نفس الهايبر ماركت يوميًا، ولكن كان قد تم اعفاؤها من مهامها الشرائية نتيجة عملها الجديد ودوامه الممتد من الحادية عشرة صباحًا إلى التاسعة مساءً، فتولى أخوها الأصغر هذه المهمة بدلا منها. كانت تنتابها أحاسيس شوق غريبة لهذا السلم الكهربائي الذي كانت تلمح عتبته وحركته الرصينة الرتيبة من خارج الهايبر أثناء مرورها اليومي، كانت تشخص ببصرها الى داخل الهايبر وتنظر لتصاعد أجسام الناس عليه في ألبستهم الملونة غير المتناغمة ونزولهم في مشهد عبثي مكرر. تكاد تجزم أن الناس هم أنفسهم المستمرين في الصعود والهبوط على مدار اليوم على الرغم من تغيرهم الحتمي. كانت تفتقد عادة الشراء كثيرًا، خاصةً وقفتها في الصف وتأملها للحلوى ذات الأغلفة الملونة الساحرة، ولمسها لتلك الأغلفة البراقة.

مرت ثلاثون يومًا على استلامها العمل ووقفت أمام صاحب العمل المكفهر وهو يخرج من جيبه رزمة من النقود ويعد أمامها بصوت عالٍ بضع ورقات من فئة المائة جنيه ويدسها في يدها نظير عملها. فرحت هي بهذا المبلغ كثيرًا، وانتابتها فكرة مجنونة في نفس اللحظة: القيام بأول رحلة شرائية خاصة بها! ابتهجت كثيرا للفكرة وأخذت تفكر في طريق عودتها في كل ما يمكن أن تشتريه بأول مرتب لها. وصلت أمام الهايبر ماركت.. وسقط قلبها في جوفها عند انزلاق بواباته الزجاجية عن مصارعها استقبالًا لها. لم تكن تلك المرة كسابق العهد.. هذه المرة بالتأكيد مختلفة. فهي اليوم سوف تشتري ما يحلو لها.. لها.. لنفسها. سحبت عربة مشتروات ومشت بخطى واثقة ما بين أركان قسمها المفضل، وأخذت تلتقط عبوات الأغذية المحفوظة بسعادة غامرة وتقرأ ما عليها من معلومات غذائية باهتمام وابتسامة واثقة. لم تفهم حقيقة ما كانت تقرأه ولكن كان هذا دأب المشترين وكانت هي تحلم باليوم الذي تفعل فيه مثلهم.

أخذت تلتقط عبوات مختلفة من حبوب الإفطار ذات الرسومات الكرتونية الملونة.. وبعض الأجبان المستوردة.. والعصائر المختلفة.. وعبوات صغيرة من الشوكولاتة والبسكويت بأنواعه المختلفة.. ولم تنس عبوتي شامبو وبلسم وعبوة سائل استحمام كالذي تراه في إعلانات التلفزيون. ملأت العربة قدر الإمكان واتجهت محلقة نحو الكاشير. وقفت في الصف تتلمس بأناملها ما اشترته هذه المرة وتحتضن كل عبوة بنظرات ملتهمة منبهرة.

لم تمض دقائق حتى وصلت إلى الكاشير وبدأت في رص العبوات أمام الموظف مستمتعة بصوت موسيقى جهاز قراءة السعر الذي كان يصدح بتحول حلمها إلى واقع.

"٧٥٢ جنيه و٣٥ قرش.." قالها الموظف دون النظر إليها. ابتسمت وأخرجت محفظتها ونظرت إلى الورقات فئة المائة جنيه بابتسامة.. باهتة.. شاردة.. ثم نظرت للموظف وقالت وهي رافعة ناظريها اللامعين إلى السماء: "الظاهر نسيت الفلوس في البيت. معلش.."

تركت العربة وخرجت مسرعة من الصف ومنه اتجهت إلى البوابة التي كادت في انزلاقها أن تنغلق على طرف وشاح رأسها الطويل، بينما كانت هي تداعب طرف عينها بأناملها الرقيقة.

تمت.