إصلاح الغرائز و الخلل الإدراكي في ثقافتنا .. مقال جديد لرئيس جامعة القاهرة
كتب الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة مقالا جديدا في جريدة الاهرام ، حول إصلاح الغرائز و الخلل الإدراكي في ثقافتنا للعلاقة بين الجنسين، وطرق إصلاحه.
حيث قال الخشت : نظرا لأننا مدعو فضيلة، فإننا لا نأخذ ثقافتنا الجنسية إلا سرا، وهنا تكون المصادر السرية مليئة بالأخطاء، فالبعض يستقي معلوماته من الأصدقاء أو مواقع الإنترنت أو الأفلام أو المجلات الصفراء. كما أن الكثيرين يأخذون ثقافتهم من فتاوي الشيوخ، وبعض الشيوخ يستقون معلوماتهم دون تمييز من كتب التراث القديم التي صنع معظمَها أناسٌ أصحاب ثقافة بدوية وليست ثقافة علمية، وهي ثقافة تفهم النصوص الدينية فهما رجعيا، بل وتزايد عليها وتسقط عليها أكثر من معانيها الأصلية؛ فالثقافة الاجتماعية البدوية أو الثقافة الاجتماعية الشعبية تلون النصوص والكلمات المقدسة بمنظومة عادات موروثة من مجتمع متخلف في أفكاره. وبكل بساطة تُحول المفاهيم والتصورات البشرية إلى معتقدات مقدسة، مع أننا لو فهمنا الكلمات الإلهية فهما منضبطا لن نجد مثل تلك المعاني!
وأضاف الخشت قائلًا : إن ثقافتنا تدعي العفة، وهي ثقافة التحريم والعيب، لكنها في الواقع تمارس النقيض. إنها ثقافة تعاني من نقص المعلومات السليمة لأنها تفرض سياجا على عملية التعلم الصحيحة، وتترك هذا الأمر لفتاوى الأصدقاء. ويستحي الوالدان والمدرسون من إعطاء المعلومات الصحيحة، لكنهم لا يدرون أنهم بذلك يتركون الأبناء فريسة للأفكار المنحرفة التي يستقونها من المسارات غير الرسمية والأفلام الإباحية بكل ما فيها من انحرافات.
واستكمل الخشت قائلًا : هنا يكمن السؤال: كيف يمكن تغيير ثقافة التعامل مع الطاقة الغريزية لتكون قوة للتعمير والإبداع أو على الأقل للتحضر؟ ، ببساطة عن طريق تغيير طرق التفكير، وإحلال المعتقدات والتصورات السليمة والناضجة محل المعتقدات والتصورات الخاطئة والمتخلفة. ودوما تسبق عملية التفكير عملية الفعل نفسه، وفي الاعتداء الجنسي يمر المعتدي بعدة مراحل بعضها فكري، وبعضها عملي.
وأوضح الخشت أن أول مرحلة هي مرحلة التفكير التي تعمل فيها المعتقدات والتصورات السابقة دورا كبيرا، وأيضا حيل التفكير في البحث عن طرق التبرير والتغلب على المحرمات الدينية والموانع الاجتماعية والقانونية، والبحث عن مبرر للتحرش سواء طريقة ملابس المرأة، أو طريقتها في التصرف، أو المشاكل والضغوط الحياتية، أو الحرمان، أو عدم التحكم في الذات، إلخ. وبعد أن يمر الشخص بهذه المرحلة من التفكير، يقوم العقل بأخذ القرار بالفعل وإصدار الإذن للمعتدي. إذن لابد من أن تبدأ عملية المعالجة من تغيير طريق التفكير والقضاء على الأنماط القديمة في التفكير التي تؤدي في النهاية إلى الفعل الخطأ.
وقال : هكذا نعود مرة أخرى إلى تطوير العقل وتغيير طرق التفكير، فهي شرط الشروط في الانتقال في إدارة الغريزة من نمط سلوكي إلى نمط آخر، ومن نمط حياة إلى نمط آخر، بل هي المنعطف للانتقال من عصر إلى عصر، وهي المفتاح الحقيقي للتقدم الاجتماعي والديني والاقتصادي، إلخ.
وأشار إلى أن ثقافتنا يوجد بها خلل إدراكي للعلاقة بين الجنسين، كما تتسلل فيها بعض المعتقدات العقلية التي تشجع وتبرر سلوكيات الاحتكاك والاعتداء الجنسي. وهنا يجب التوقف طويلا من أجل مراجعة أنفسنا، حتى نعرف ضرورة تغيير رؤيتنا للجنس الآخر، بل تغيير رؤيتنا لأنفسنا. وهذا جزء من تغيير رؤيتنا للعالم بوصفها شرطا للتخلي عن رؤيتنا القديمة التي نستقيها من ثقافة القدماء المرتبطة بظروفهم الاجتماعية والاقتصادية.
وتحدث الخشت عن تغيير ثقافة التعامل مع الطاقة الغريزية، أمر بالغ الأهمية، وأول شيء هو تغيير حدود مفهوم الجنس وعلاقاته بسائر جوانب الإنسان، مشيرًا إلى أن مفهوم الجنس ليس قاصرا على العملية الجنسية ذاتها، بل يتجاوز ذلك إلى كل العمليات السابقة واللاحقة على هذه العملية، مثل العلاقات العاطفية، وطرق التواصل، والتواعد، وطريقة التعبير والمحادثة، والنظرة إلى الجسد، وتأكيد الهوية الجنسية للطفل (ذكر أم أنثى)، والنشوة، وأخذ القرارات، والأمراض الجنسية وطرق الوقاية منها وطرق علاجها، والتوجه الجنسي، والتشريح الجنسي، والصحة الجنسية، والتكاثر، والإخصاب، وعملية الحمل، وتطور الجنين، والولادة، وحقوق التناسل، ووسائل تحديد النسل، وتنظيم الأسرة، بل يتجاوز ذلك إلى بعض عمليات التفكير والإبداع، إلخ.
وشدد الخشت على أنه يلزم أن نعيد النظر في الغرائز كلها، ووضعها في إطار الرؤية العلمية، واعتبارها جزءا أصيلا في الإنسان. ومن اللازم أن تكون جزءا من أي مشروع إصلاحي للإنسان مثلها مثل العقل النظري، والعقل الديني، وملكة الوجدان، والعقل العملي. ومن الثغرات الكبرى أن المشروعات الفلسفية الإصلاحية لم تنتبه إلى الغرائز كمحور أصيل في وزن بقية المحاور، وفي الحالات النادرة لبعض المشروعات الفلسفية يتم الالتفات إليها في السياق العابر وليس كركن في إصلاح الإنسان.
وأوضح أن الإنسان يولد وعنده ميل فطري لاكتشاف العالم من حوله، ونزوع لفهم الحياة، ومن بينها العلاقة بين الجنسين. ومن أكبر الأخطاء الظن أن الثقافة الجنسية لها عمر معين أو أنها تُقدم دفعة واحدة. كما أنني لست مع وجهة النظر التي تريد لها مقررا منفردا في التعليم. نحن أصبح عندنا هوجة مقررات إضافية جديدة لكل شيء!
وأشار الخشت إلى أن الصواب أنها ثقافة تدريجية عبر المراحل العمرية، وأن تعلمها يأتي على مراحل وبطرق مختلفة في الحياة المنزلية تحت رعاية الوالدين، وفي المدارس من خلال المقررات الدراسية المتنوعة، كل مقرر حسب طبيعته.
وأخيرًا قال الخشت : يجب أن نعلم أن أسئلة الأطفال البريئة هي أسئلة طبيعية يجب الإجابة عليها بطريقة مناسبة وليس رفضها أو استهجانها أو الرد عليها بمعلومات مضللة أو أساطير. وعلى الآباء والأمهات أن يتجاوبوا مع أبنائهم وأن يثقفوا أنفسهم بالثقافة العلمية التي تساعدهم على ذلك، والرجوع إلى المتخصصين لمعرفة الأسلوب الأمثل لطريقة الإجابة؛ لأن أهل الحل والعقد في هذه الأمور هم علماء الاجتماع والنفس والتربية والطب والفلسفة.
وأوضح أنه من الضروري أن تتنوع الأدوار في عملية تغيير طرق تفكيرنا في الغريزة الجنسية، وهنا نجد ضرورة التربية الجنسية عن طريق الإعلام، والمدرسة، والوالدين، والمنابر الدينية، والكتب المتخصصة المبسطة، والأعمال الفنية. لكن المشكلة عندنا في الأساس تكمن في التصورات الخاطئة المسيطرة على أصحاب بعض تلك المنصات. فنحن بحاجة لتغيير ثقافة هؤلاء أولًا؛ لأنهم سبب رئيس في تخلف الثقافة العامة في هذا المجال! ويجب أن يكون لدينا الشجاعة في التناول العلمي لها تناولا رصينا من خلال العلوم الطبية والإنسانية والاجتماعية والتربوية، وأن تكون هذه العلوم هي المرجعيات في البرامج التربوية سواء في الإعلام أو المدارس أو البيوت. فقد آن الأوان للتحول نحو الثقافة العلمية الوضعية وتجاوز الثقافة الرجعية واللاهوتية".