التعاون توجيه رباني سامٍ.. فإن الله تعالى في كتابه الكريم: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة البقرة/ 228)، فقرر سبحانه في هذه الآية الكريمة أن العلاقة بين الزوجين ليست علاقة بذل من طرف دون طرف، ولا أخذ من غير عطاء، بل هي علاقة فيها نوع من التماثل في كثير من الجوانب، ليس على جهة المطابقة، ولكن من جهة أن على كل طرف واجب يجب عليه أن يقوم به حيال الطرف الثاني،
ثم هو يقول سبحانه في آية أخرى فيما معناه إن التعاون لا يتم بين الزوجين على جهة المحاصصة، ولا التقسيم المادي المقيت، بل يستند في أساسه الى المحبة والرغبة في إفادة الطرف الآخر ومعاونته دون انتظار لما سيقوم به في المقابل فقال سبحانه: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (سورة البقرة/ 237)، وقد يقول بعض ضيقي الأفق إن هذا تحميل للآية أكثر مما تحتمل، فقد وردت الآية في شأن الطلاق قبل الدخول، فقرر سبحانه أن للزوجة نصف المهر فقط، وليس لها متعة، ثم ختم الآية بقوله {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، ليحث الرجل على بذل شيء فوق ما هو واجب عليه لها على سبيل الكرم استحبابًا، وهذا صحيح، لكنه غير كامل، لأن الله تعالى إذا أوصى عند الطلاق بعدم نسيان الفضل بينهما، ففي ذلك ما فيه من الحرص على بقاء شيء من المعروف والتعاون رغم حصول الطلاق بينهما، وإن ذلك لا يحصل بين من قامت العلاقة الزوجية بينهما أصلًا على خلاف ذلك من المشاحة والتباخل، فإذا كانا في أثناء قيام الزوجية بينهما على هذا النحو من الأنانية والأثرة، فلا يمكن أن يتحولا فجأة عند الطلاق إلى منجم من العفو والكرم والتسامح، فلذلك لا يُعد من حسن القراءة لكتاب الله أن يُفهم قوله تعالى {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، بعيدًا عن نسقه العام، الذي يشير إلى وجوب تحلي المسلم بذلك إجمالًا ليس في علاقته بمطلقته فحسب، ولكن في علاقته بزوجه من باب أولى، بل وبكل الناس أيضًا.
توجيه نبوي يزكي في الرجل والمرأة روح التعاون:
يقول النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ((الرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهلِهِ وَهُوَ مَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوجِها وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِها)) (متفق عليه)، فمن منطلق الشعور بروح المسئولية التي تمتلئ بها نفس كلا الزوجين يحصل بينهما التعاون على إقامة حياة مشتركة، تقوم على تقوى الله في علاقة كل طرف منهما بالطرف الآخر، لأنه على قدر إخلاصه، وتفانيه في التعاون، سيسأله الله تعالى.
الندية والتصادم كلاهما سم قاتل:
وكذلك في المقابل بعض الأزواج من فرط شعوره المغشوش بالمسؤولية تجاه أهل بيته، لا ينفك يصيح ويصرخ، ويزمجر، وينفر، لأتفه الأسباب، فنظافة البيت دائمًا ليست على النحو المرغوب له، ومقدار الملح في الطعام أو السكر في الشاي دائمًا لا يرضيه، وإن مثل هذا الزوج لا يعد نموذجًا للزوج المتعاون، وإن قال بأن صراخه وصخبه لأنه يريد لها أن تجود في أدائها، وتصبح أفضل من غيرها، فكل هذه علل لا تسوغ الحياة الزوجية ولا تحيلها أبدًا سعيدة هانئة، ذلك لأن التعاون في أبسط معانيه يعني المشاركة، والمشاركة هي دعامة مهمة، من دعائم الحياة الزوجية السعيدة، هي الماء الذي تروى به المحبة لتدوم بين الزوجين.
خطوة أولى مهمة من أجل أن يحصل التعاون:
إذا أرد الزوجان أن تتجلى في حياتهما هذه القيمة السامية فإن عليهما من أول يوم بينهما، من حين ليلة الزفاف، أن يحددا عوامل الاتفاق، فيعملا على تقويتها، وأن يُعيِّنا عوامل الاختلاف فيلغيانها، فنحن بحاجة منذ الليلة الأولى إلى وضع رؤية مشتركة تسير عليها حياتنا الزوجية.
لذلك قلت: مبادئ الحياة الزوجية المتعاونة، لابد من إرسائها، من أول يوم، حتى تسير سفينة الحياة سالمة من الأنواء والأمواج العاتية.
على أي شيء يكون التعاون؟:
(1): التعاون أول ما ينبغي أن يكون فإنما يكون على طاعة الله:
فانظر كيف قامت زينب زوجة شريح القاضي إلى جواره تصلي بصلاته، في أول ليلة لها في بيته، فالمرأة الصالحة هي التي تعين زوجها على طاعة الله، والزوج الصالح هو الذي يعين زوجته على طاعة الله، فإن رحمة الله تعالى تتنزل على البيت الذي فيه يحصل ذلك التعاون، ففي سنن أبي داود وغيره عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله « رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح فى وجهها الماء رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت فى وجهه الماء ».
(2): ومن ذلك أيضًا أن تعينه على طلب العلم:
فتوفر له الوقت، وتهيء له الأجواء، حتى يزداد تحصيله، فلذلك قال شريح ما أحب أن يملني أصهاري، لأنه رجل قاض طالب علم يحتاج إلى وقته، فلا يناسبه أن يزوره أصهاره باستمرار، ولا هو يزورهم على الدوام، لأنه مشغول بما هو أجدى وأنفع له ولهم وللمسلمين، وكذلك بالمثل ينبغي على الزوج أن يكون عونًا لزوجته على طلب العلم، سيما العلم الشرعي، وكل علم يحتاج إليه الناس فهو شرعي، فينبغي على الزوج الكامل خلقًا، السالم نفسًا، ألا يجد في زيادة علم زوجته ما يؤذي شعوره أو ينقص مكانته، وعليها في المقابل ألا تعد زيادة علمها زيادة على زوجها مهما كان قدر تحصيله؛ ثم على كل منهما أن يكون عالي الهمة لا في طلب العلم فحسب بل في أن يكون شريكًا لعالم أو باحث (رجل أو امرأة) في أجره، ليس بالضرورة أن نكون جميعًا علماء رجالا ونساء، لكن لا أقل من أن تصبح معينًا لطالب علم في طالبه، إن ضعف همة كثير من الأزواج عن ذلك سبب رئيس في قلة النساء العالمات، كما أن ضعف همة الزوجات عن ذلك يجعل أكثرهن سببًا في القعود بهمة طلاب العلم من الأزواج عن البحث والدراسة؛ لذلك نجد أن أئمة كبارًا، آثروا العيش بلا زوجة، حتى لا تشغلهم الزوجة بحالها وشأنها عن العلم، فلذلك لم يتزوج الإمام النووي ولا ابن تيمية ولا القرطبي ولا الطبري، وغيرهم كثير، فلذلك على الزوجة، حين تعلم من زوجها أنه من طلاب العلم المادي أو الشرعي، على السواء، أن تكون عونًا له ودافعًا له على التقدم، وأن تعلم أن لها في ذلك أجرا، فلا ريب أن ذلك من حسن التبعل الذي عده النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الآثار يعدل الجهاد في سبيل الله.
(3): ومن أهم أبواب التعاون بين الزوجين كذلك التعاون على الأرزاق:
فالنفقة حق واجب للزوجة على زوجها، والزوجة الفاضلة هي التي توفر على زوجها كثيرًا من النفقات، وتتحمل إذا استطاعت بعض هذه النفقات فتقوم ببعض الأعمال تعين بها زوجها على المعيشة وأعباء الحياة، وهي إذ تفعل ذلك فإنما قدوتها في ذلك أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، التي واست النبي بمالها، فأنفقته خدمة لدينه ودعوته في سبيل الله، وقدوتها في ذلك فاطمة رضي الله عنها التي كانت تعين عليًا رضي الله عنه فتعمل في بيته، تطحن بالرحى، وتستسقي بالقِربة، وتكنس بيتها، بنفسها، وكذلك أيضًا كانت زوجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، فقد جاء في سنن البيهقي وغيره أنها كانت امرأة صناعا، أي امرأة لها صنعة، وليس لعبد الله بن مسعود مال ، وكانت تنفق عليه وعلى ولده من ثمرة صنعتها ، وقالت: والله لقد شغلتني أنت وولدك عن الصدقة، فما أستطيع أن أتصدق معكم، فقال: ما أحب إن لم يكن لك في ذلك أجر أن تفعلي، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو وهي، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة ولي صنعة فأبيع منها، وليس لي، ولا لزوجي، ولا لولدي شيء، وشغلوني فلا أتصدق، فهل لي في النفقة عليهم من أجر؟ ، فقال: لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم، فأنفقي عليهم.
(4): ومن أبواب التعاون أيضًا التعاون في بعض شؤون المنزل:
فإذا كانت الزوجة الصالحة التي تنشد الحياة السعيدة الهانئة هي الزوجة التي تعاون زوجها على شؤون الحياة والأرزاق، فكذلك الزوج الفاضل الذي له في رسول الله أسوة حسنة هو الذي يعين أهل بيته على قضاء شؤونهم، (إذا تيسر له ذلك)، من غير تكبر منه، ولا انتقاص منها لقدره، ولا هدر لمكانته كرب للأسرة وقائد لها، ففي البخاري عن الأسود بن يزيد النخعي رضي الله عنه أنه سأل أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: "ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مِهنة أهله، فإذا سمِع الأذان خرَج".
ثمار التعاون: