الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فدوى عامر تكتب: اليوم عاد

صدى البلد




ألقت نظرة أخيرة مطولة في المرآة قبل أن تغادر غرفتها. طوقت خصرها بنطاقٍ جلديٍ ذي نقوشٍ مما أبرز بساطة فستانها وأناقته، وأحاطت جيدها الرقيق بوشاحٍ ورديٍ حريريٍ احتضنه في نعومة، ثم أعادت تمشيط وتثبيت خصلات عنيدة من شعرها كانت تترنح على جبهتها، تماما مثلما ترنحت روحها حينما أضاءت شاشة هاتفها صادحة بإسمه بعد طول غياب. سقط قلبها في باطن قدميها.. وتطايرت فراشات الذكرى من أعماق كيانها فزلزلت قواها الواهية، وأذابت جليدًا كان قد تساقط لشهورٍ دموعًا حارة من عينيها، فشق أخاديدًا على وجنتيها، واسترسل على جيدها، وصولا إلى قلبها الذي وافته منية فراقهما، ففترت جنباته وبردت شرايينه لحظة الوداع.

كان وداعهما باردًا.. على عكس توقيته الذي جاء في ذروة قيظ الصيف. لم يقل شيئا كثيرًا، فقط ما شعر أنه كفيل ببتر مشاعرٍ لم يكن على حد قوله مستعدًا لها. كانت كلماته مقتضبة، شحيحة، لم يبذل جهدًا حقيقيـًّا في تنميقها، فبدا لها أنه ينفثها لا إراديـًّا مع دخان سيجارته. كم ودت لو كانت كلماته بمثل حرارة هذا الدخان.. بمثل حرارة دموعها.. بمثل حرارة القهوة التي يحتسيها.. والعرق الذي تسلل إلى راحتيها وهي تفركهما في توتر أسفل مفرش الطاولة التي تفصل بينهما، بعد أن سحبتهما بهدوء من أمام فنجان قهوته. كانت تتوق للمسةٍ من يديه حتى لو لمسة وداع، ولكنها فوجئت بكلماته التي صفعتها كما لفحها دخان سيجارته، فتباعدت المسافات بينهما في لحظة رغم جلوسه أمامها.. واتشحت ألوان وجوده فجأة بلونٍ أزرقٍ باهت، لون الذكرى، لون الموت في بدايته، لون أظافرها في ليالي الشتاء الباردة التي قضتها وحيدة، ترقب سحبًا رمادية تمر في السماء، كما تمر سحابة صورته في مخيلتها.. وعلى فراشها، كما ينطبع اسمه على شاشة هاتفها حين تكتب اسمه كلما اشتاقت إليه..

لم يقل شيئًا حين هاتفها.. فقط قال إنه يريد لقاءها. كادت سهام كلماته أن تصيب عقدة لسانها وتحللها فتنطق بما قضت شهورًا تعانيه في غيابه. كادت أن تعاتبه.. أن تبكي.. أن تصرخ.. ولكنها تماسكت وآثرت الصمت حتى تلقاه. لم تكن تريد سوى إجابة لأسئلة تعصف بذهنها: ما الذي دعاه للرحيل؟ كيف استطاع أن يبعد عنها بهذه السهولة بعد كل ما جمعهما؟ ثم ما الذي أعاده إليها؟ أهو حب جديد وُئد قبل ميلاده؟ ام أماته هو بيديه كما فعل معها؟ أجلت التساؤل والعتاب إلى أن تلقاه.. إلى أن تراه. تناولت مفاتيح سيارتها ثم فتحت باب المنزل في هدوء.. تنهدت ملء صدرها وأغلقت الباب ورائها ومضت في طريقها..

كان الطريق مزدحمًا والمرور بطيئًا.. تسير السيارات لبرهة وتتوقف لدقائق. نظرت إلى الأفق أمامها فلم ترَ سوى صورته الباهتة المختلطة بزرقة السماء، والتي تخللتها أشعة الشمس الأرجوانية المشرفة على الرحيل. ما بال أشعة الشمس؟ أتراها تدفء ذكراه فتحييها، أم تراها تمد أذرعها لتحرق تلك الذكرى فتقضي على ما تبقى منها بداخلها؟ أمالت رأسها إلى الخلف وأطبقت مقلتيها محاولة الهرب من صورته.. فتسلل عبر أهدابها انعكاس شعاعٍ أرجوانيٍ متراقص على قلادة ذات فصوصٍ ملونةٍ متدلية من مرآة سيارتها. ارتعشت هي.. فقد كان هو من أهداها هذه القلادة ولم تجرؤ رغم كل ما جرى على أن تتخلص منها طوال الفترة الماضية. علَّها كانت تشعر في قرارة نفسها أنه سيعود.. علَّ يدها التي أبت أن تنزعها أصدق في إحساسها منها.. هي التي استسلمت بسهولة للفراق دون عناد.. ودون رجاء.. ودون سؤال.

لكم نهشت الأسئلة كيانها: ماذا حدث؟ ولماذا رحل؟ وما الذي جنته؟ والآن السؤال الجديد: لماذا عاد؟ شعرت كما لو أن الأسئلة تتربص به بداخلها وتتحين لحظة رؤياه لتفتك به.. قبل أن تقضي إجاباته على البقايا الباقية من حبها له.. لهذا فقط وافقت وقبلت أن تراه مجددًا بعد شهور الفراق: فهي تريد إجابات مقنعة لما فعل.. تريد محو آثار حبه من قلبها. سوف لن تكتفي هذه المرة بتبريراتٍ واهيةٍ ولا حججٍ جوفاءٍ ينفثها مع دخان سيجارته في وجهها فيُميت بها الكلمات بين شفتيها.. سوف تنقض عليه بأسئلتها ولن تتركه قبل أن يطفئ نيران حيرةٍ عصفت بها طوال ما مضى من شهور..

شهور ترقرقت كتلك الدمعة اللامعة في عينيها حين رأته.. حاولت أن تتماسك فرسمت على وجهها ابتسامة مرتعشة كرعشة يدها التي استسلمت ليده ونامت في تجويفها.. ذلك الفعل الذي يسمونه سلامًا.. وما هو بسلام! ليس هذا بسلامٍ أبدًا.. فأين هو السلام وهو يضرم النار في مشاعرها الكامنة، ويرميها بسهم ابتسامته الرحيبة، ودفء ثنايا وجهه الآسر، واحتضان تجاعيد جبينه التي اعتادت السُكنى بين جنباتها تارةً، واحتواءها تارةً فيما مضى. تذكرت كيف كانت تلجأ إليه لتحتمي به من مخاوفها، من وحدتها، ومن آلامها.. تذكرت، ويالصدق ما تذكرت، أنه لم يصدُدْها يومًا.. لم يبخل عليها باهتمامه الصادق وحنوه الغامر وعاطفته الحية التي كانت تخونه دومًا، تاركةً إياه عند لقائهما لتبيت معها.. فتدفئ لياليها وأيامها وكيانها إلى أن تلقاه في موعدهما التالي. كيف تأتى لها أن تنسى هذا كله.. ولا تتذكر سوى رحيله؟ لماذا تلومه هو الذي أعطاها من ذاته وحبه ونفسه الكثير؟ هو الذي كان دائما هنا.. وقتما بخل الكل بالوجود.

كان وجوده طاغيًا كسلطانه عليها.. وحضوره قويًّا تماما كغيابه.. كانت لحظة اللقاء هي لحظة انصهار كل وجع.. واختفاء كل ألم.. وانتفاء كل ذكرى لآخر لقاء من نفسها.. ولملمة شمل لكيانها المبعثر عبر دروب الفراق والبُعد. بادرها بباقة ورودٍ حمراء صغيرة: ٥ وردات بعدد شهور فراقهما.. بعدد حروف اسمها الذي كتب كل حرف فيه بعناية على بتلات كل وردة. نظرت إلى للورود النائمة بين يديه.. فرأت قطرات الندى تنساب عليها كدموع عينيها. بكت الورود من جرحه لها، ولكنها سامحته على ما جنت يداه بها.. فكيف بالله لا تسامحه هي؟ تمتم بعباراتٍ لم تعِها فرد إليها روحها، وبث في جمود قلبها الحياة.. فتشقق الجليد عن صدرها حين لثم بشفتيه أناملها مرددًا: سامحيني ⁦❤⁩

* مستوحاة من قصيدتي "أيظن" و"ماذا أقول له" للشاعر نزار قباني