الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فدوى عامر تكتب: بلاك چاك

صدى البلد

أمسك بورقتي اللعب بيدٍ خبيرةٍ واثقة.. كان قد اعتاد ألا ينظر في أوراقه إلا بعد أن يرقب تعبيرات وجوه اللاعبين الآخرين ويتمعن في لغة أجسادهم، فيقرأ في تقطيبة جبين الأول صعوبة موقفه، وفي رعشة أركان فم الثاني فرصةً يود ألا تفلت منه، وفي جز الثالث على أسنانه يأسًا وإحباطًا، وفي ضغطة الرابع على أوراقه بأصابعه فرحةً مبكرةً قد توءد قبل ميلادها. 

لم تكن تلك القراءات ثابتة، فهي ليست مدونة في كتاب لأسرار اللعبة وقع تحت يديه كما كان يتهمه أصدقاؤه دومًا وهم يمازحونه على حسن حظه الدائم ودهائه المفرط. بل هي نتاج دراسته لملامح وردود فعل كل منهم على مدار وقت طويل، فهم رفقاء لعبة البلاك چاك منذ ما يربو على الأربع سنوات. اتفقوا خمستهم على حب اللعبة، فاخترعوا لها قانونًا جديدًا يمكنهم من لعبها معًا دون ديلر، فزاد تنافسهم سويَّا من حلاوتها. كانوا يضعون رزمة الأوراق على المائدة المستديرة ويبدأون تباعًا في السحب منها كلٌ حسب دوره. كان يمتاز عنهم جميعا بالمكر الشديد، وبإجادته لعلم الفراسة الذي مكنه من قراءة قسمات الوجوه، وملاحظة تلون ملامح البشر؛ فكان ذلك بالنسبة له بمثابة مرآة لما يدور بخلدهم. كانت هذه مهارته التي برع فيها، والتي اكتشفها في نفسه منذ نعومة أظفاره وسعى لتنميتها على موائد اللعب. 

لم يكن يرضيه سوى الفوز بالإحدى والعشرين نقطة.. فكل ما هو دون ذلك حتى وإن أهله للفوز لم يكن ليشبعه. كان ذلك يثير رفقاءه فيتهمونه بالطمع حين لا يفرح بفوزه بثمانية عشرة نقطة أو حتى بعشرين. كان يقطب جبينه ويعقد حاجبيه في غضب ظاهر ويرمي الأوراق محتجًا على ذلك الفوز المنقوص. هو يبحث عن الكمال في كل شيء.. لا يحب النقصان ولا يعترف به وإذا ما وقعت عليه عيناه لم يرَ غيره. كان ذلك وياللمفارقة ربما عيبه الوحيد.. ولكن هل يُعد الشغف بالكمال نقصان؟؟ 

أتم قراءة وجوه خصومه بدقةٍ وتأني قبل أن يقلب ورقتيه في رباطة جأش يحسد عليها. ابتسم لرؤية السبعة والآس، فالأخير يمثل فرصة إضافية للفوز بحسب القيمة التي يعطيها له. لم يكن يلعب البلاك چاك مقابل المال، كان اللعب بالنسبة له مغامرة عقلية ومتعة وشحذ لذكائه ومهاراته لا يجد له مثيل. كان يستمتع بالنيل من فريسته، وجعلها طوع يديه، ورهن إشارته. فلا يلبث إلا أن يمضي مستمتعًا برؤية انهزامها وانكسارها. لم يكن يستهدف فرائسه تلبية لجوعٍ أو رغبة؛ بل كان يكفيه خضوعها وإقرارها بالانهيار أمام سلطان قوته، وسماع تأوهات ألمها وعذابها، قبل أن يتركها بحثًا عن الإيقاع بأخرى.. أكثر كمالًا واكتمالًا.

كانت مغامراته لا حصر لها، فهو يجيد فنون الإغواء، بعينيه الضيقتين كعيون الثعابين، وجسده الرياضي المفتول الذي يحرص على صقل عضلاته بانتظام، وشعيرات فوديه وذقنه الخفيفة والتي اختلط فيها اللونان الأسود والرمادي في تعبير عن عنفوان شبابه وهدوء ورزانة سنوات عمره التي تعدت الأربعين بقليل، إضافةً إلى أناقته الشديدة حتى تكاد تسمع صوت احتكاك قميصه المكوي بعناية بچاكت حلته الأنيقة، والمتناغمة مع حذائه اللامع وعطره القوي الساحر. كان ذلك كله يميزه ويسهل من مهمته: أربعيني، جذاب، أنيق، ذو شخصية آسرة ووضع اجتماعي مميز وعمل مرموق. 

كان يهتم كثيرًا بقراءة ما يستجد في علم الفراسة حتى أصبح ضليعًا فيه: فصاحبة الوجه المربع قوية الشخصية، بينما صاحبة الوجه البيضاوي حالمة وناعمة. كانت تشده ذات العيون الواسعة، فهي صيد سهل بعاطفيتها الشديدة، كان يتحدى ذات الشفاه الرفيعة حتى تخضع.. فهي لا تؤمن بالعواطف ولا تستسلم إلا بعد نزال. كان يحب ذات الجبهة العريضة لمعرفته المسبقة بذكائها الحاد، فيُمني نفسه معها بمغامرة طويلة يشوبها الكثير من الإقبال والإدبار قبل أن ينقض عليها فتخر أمامه مستسلمةً ليشعر هو بزهوة الانتصار.

جميلة كانت، وأنيقة، وجذابة لأبعد الحدود. كان لوجهها المنير -والذي يحيط به شعرها الأسود المعقوف خلف رأسها في دلال- سحرٌ لا يضاهيه سوى القمر في سماء ليلةٍ صافيةٍ خاليةٍ من النجوم. كانت تترك بعض الخصلات الناعمة تترنح فوق جبينها الوضاء وحول وجهها الآسر فيزيد ذلك من بهائها.. ومن نشوة الناظرين إليها. كان لجسدها الممشوق وضحكتها الحانية واستدارة وجنتيها واستكانتهما كيمامتين وديعتين بالغ الأثر في نفوس المحيطين. كانت تتمتع بذكاءٍ أنثوي محبب لا يشعره بالنفور.. نعم.. فذكاء المرأة إذا ما زاد في نظره ماتت رغبته فيها وتبلدت عواطفه نحوها. كان يراها أقرب ما عرف إلى الكمال..

أخذ يراقب الجالسين حول مائدة اللعب المستديرة بدهاء الصياد. وضع احتمالاته نصب عينيه قبل أن يبدأ في سحب أوراقه: فإما الثلاثة ليكمل الإحدى والعشرين نقطة.. وإما اثنتى عشرة نقطة مقسمة على أكثر من ورقة. سحب الورقة الأولى فكانت ٤ كوبة.. كان يحب الأرقام الصغيرة كونها تزيد من فرص استمراره في اللعب وفوزه حتى ولو كان فوزًا بطعم الهزيمة كما كان يسميه. 

لا يدري لماذا فكر فيها بعد مرور أكثر من شهر على آخر لقاءٍ بينهما قبل أن يقرر الابتعاد؛ بل إنه لا يدري حتى لماذا ابتعد. لم يكن قد رأى النقص بعد، ولكنه ربما كان يعلم أنه بمرور الوقت ستقع عيناه عليه فيزهدها. لم يكن يستند في ذلك سوى إلى واقع خبرته.. وهاجسٍ داخل نفسه. هل أزعجه ما بها من كمال؟ هل جعله يشعر بنقصانٍ ما في داخله؟ لا يعلم حقًا ولم يهتم.. فلقد اعتاد الرحيل دون البحث عن إجابات.. دون النظر ورائه. كان كبرياؤه مريضًا بداء العند.. وآفة الكبرياء لو تعلمون العناد.

سحب ورقةً أخرى.. فإذا بها ٦ بستونية. معه الآن تسعة عشرة نقطة. استطاع أن يستشف من وجوه أصحاب اللعب أنه متفوقٌ عليهم، وأنه فائز لا محالة.. ولكنه الفوز الذي لا يرضيه. لم يستطع مقاومة سحب ورقة أخرى ليطوع بها الحظ ويطويه لصالحه. كان ينافس حظه وينافس نفسه حتى لو قضى عليها بحثًا عن الكمال. كان شعوره مقاربٌ لذلك اليوم الذي أدار فيه دفة الجفاء ورحل عن عالمها ليكمل رحلته التي وُلد من أجلها. كان يعلم أنه فاز بها.. ولكنه الفوز الذي لا يشبعه. بيد أنه لم يدر لماذا رحل.. ربما لاكتمالها الشديد الذي أربكه، وهدد بتوقف رحلته ورسوِّ سفينته على شاطئها هي دونًا عمن سبقنها. فلم يستجب للرياح التي ساقت أشرعته إليها، ومضى موغلًا في غياهب الأمواج بحثًا عن كمالٍ لا يشعره بنقصان.. تاركًا خصلاتها تداعب حيرة دامعة في عينيها المتسائلتين.

ضم قبضة يده اليمنى ثم أطلقها ومد أصابعه ليلتقط الورقة الأخيرة التي ساقها القدر إليه، لم يتردد لحظة ولم ترده نظرات رفقائه عن ما هو بصدده. أطال النظر إلى رزمة ورق اللعب أمامه وتحركت أنامله نحو الورقة الساكنة على وجهها. علت فمه ابتسامةٌ ماكرة، وطلت من عينيه لمعة المغامرة فضاقت مقلتاه في عزمٍ.. وعنادٍ معهود. سحب الورقة ونظر إلى رفقائه ممازحًا إياهم بشفاه مزمومة كطفلٍ مدللٍ أهداه أبواه لعبة فأخذ يغيظ بها أصدقاءه. تعالت الضحكات وبدأ الجميع في مداعبته على حظه المعهود مقدمًا فأشار لهم حازمًا بالكف والاستمتاع بلعبة النهاية. ثبت كف يده فوق الورقة ثم قلبها في حركة أفعوانية وهو ينظر إلى مجالسيه يمينًا ويسارًا كمن يقدم فقرة ساحر.. ثم نظر إلى ما في يده: ملك (شايب) سباتي. ارتبكت يده وارتعشت ابتسامته قبل أن يطيح بالأوراق على مائدة اللعب بغضبٍ طفولي ويمضي. 

كان يجيد قراءة الوجوه بالفعل، ولكنه أخفق في حساب المقدرات.

تمت.