الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. راندا رزق تكتب: القصة الرقمية ومواكبة الخيال

د. راندا رزق
د. راندا رزق

شكلت القصة منذ قديم الأزل واحدة من أهم الفنون التي تحمل طابع شعبي شديد الخصوصية لمجتمع ما، وساهمت في تقديم معلومات ثقافية وتاريخية عن هذا المجتمع توارثتها الأجيال وأكسبتها هويته، عوضًا عن كونها أحد أهم المصادر التي تشكل القيم الأخلاقية للإنسان وإثراء مخزونه المعرفي وإكسابه مهارات الحياة، وعلى الرغم من التطور الهائل الأخذ في النمو للفكر البشري إلا أن القصة نجحت في الصمود –بشكلها التقليدي- والتماهي مع كافة ألوان الفنون الحديثة.

وقديما احتلت القصة النثرية (الحكاية) مكانة مرموقة بالمجتمعات، إذ كانت تلعب دور القنوات الفضائية في عصرنا الحالي، تطرح تجارب الآخرين للنقاش العام بشكل جذاب وممتع من خلال نقل العلاقات الإنسانية السامية وإخراجها من نطاقها المحدود إلى نطاق أوسع وأشمل، وعلى مر التاريخ نجحت هذه القصص في تطوير عمليتي التعليم والتعلم وتنمية خبرات المجتمعات التي شكلت هذه القصص وبلورتها بهذا الشكل الذي سمح لها بالتداول بسلاسة بين أفراد هذه المجتمعات.

وألهمت القصص الشعوب عبر العصور للقيام بأعمال عظيمة، ونجحت في فعل ذلك عن طريق اتسامها بعناصر كالحبكة، والشخصيات، وسياق الأحداث والزروة، بل وتوسعت لتشمل طقوس أسطورية مستوحاه من واقعهم.

وعلى الرغم من أن القصة النثرية نجحت في الحفاظ على زخمها عبر التاريخ، إلا أن هناك ألوان جديدة تمخض عنها عصرنا الرقمي تحاول دون شك أن تخضع القصة النثرية للحداثة وتفرض عليها التجديد، مثل القصص الرقمية، وللوهلة الأولى، يبدو أن الجمع بين القصة النثرية والأدوات الرقمية أمر غير وراد الحدوث، خاصة وأن القص الرقمي يمتاز بالتفاعل والمرونة، والبعد عن الخطية التي تلازم القصص النثرية، وإن كان الجمع بينهما مازال في أطواره الأولى، إلا أن هذا النهج بات أمر واقع، تفرضه انعكاسات التطور التكنولوجي على الذوق البشري.

والقصة الرقمية هي (حكاية) تعتمد في تشكيل لونها الفني على استخدام عناصر الوسائط المتعددة مثل الفيديو والصور والتعليق الصوتي وغيرها من الوسائط، بهدف ترجمة القصة النثرية إلى حكاية مرئية ذات نطاق زمني محدد لجعلها أكثر ملائمة مع المتغيرات التي طرأت على عقلية المتلقي وطريقة تقبله للأشياء.

وتشير المؤرخة سوزان دوجلاس إلى أن نهج القصص الرقمية تمخض عن تطور وسائط الإعلام القائمة على الكمبيوتر، التي حولت القصة الشفهية المبينة على الاستماع إلى تجربة تشمل مشاركة مباشرة من المستمعين. ويرى باحثين مثل روبرت كلارك وأندريا آدم أن القص الرقمي بدأ بالفنون التي عنيت بـ"دمقرطة الثقافة"، أي تمكين وإعطاء صوت للأفراد والجماعات المهمشة والصامتة، التي تعاني من التجاهل من قبل الثقافة السائدة، ولقد تبلورت أطروحات كتلك في صورة مشروعات أومنظمات تركز على القص الرقمي، منها على سبيل المثال مركز سان فرانسيسكو للإعلام الرقمي الذي تأسس على يد جو لامبرت، ونينا مولن، وداناش أتشلي في عام 1994.

وفقا لرؤية المخرجين الثلاثة المبنية على أن الناس من الممكن أن تبدع في خلق قصص شخصية قوية بايتخدام الأدوات الرقمية مثل الكاميرات وأجهزة الكمبيوتر ومسجلات الصوت وغيرها من برامج الوسائط الرقمية.

وبما أن القصص الرقمية تسعى إلى خلق حالة أكثر حداثة للقصص السردية فكان عليها أن تحقق استفادة على نحو ما تؤكد بها أهمية وجودها، فمثلا يرى كيسون أوهرل أستاذ التكنولوجيا التعليمية والتعليم عن بعد في جامعة الأسكا إن للقصص الرقمية تأثير إيجابي على العديد من الأوجه، فبحسب رأيه، من خلال خلق الشخصية الرقمية يمكن للطلاب أن يكونوا نشطاء مبدعين، بدلا من أن يكونوا مستهلكين سلبيين للقص السردي، كما يرى أن الطلاب يمكنهم من خلال إبدع الحكي، تنمية قدراتهم على التعبير الصوتي، عوضًا عن توفير القصص الرقمية فرصة قوية لتعلم التربية الإعلامية، كونهم يشاركون في إنتاج وتحليل الرسائل أثناء قيامهم بتحويل القصة السردية إلى رقمية.

وهدفت العديد من الدراسات إلى التعرف على أثر استخدام القصص الرقمية في تنمية المهارات المختلفة، وتوصلت فيج ووارد وجيلوري في دراسة طبقت على مقرر "تكنولوجيا المعلومات" الدراسي، إلى أن حكي وتصميم القصص الرقمية شجع الطلاب على تطوير مهارات الكتابة بشكل فعال، كما أن تطبيق الأنشطة التدريبية على محتوى الدراسات الاجتماعية مكن الدارسين من امتلاك الأدوات الفعالة الحاصة بدمج القصص الرقمية بمناهج دراسية أخرى، وهناك العديد من الدراسات الأخرى التي تختبر مدى تأثير القصص الرقمية، وهذا يعني أنه على الرغم من أن القصص الرقمية باتت نهجًا قديمًا نسبيًا إلا أنها مازالت خاضعة للاختبار من حيث الجدوى والتأثير.

ويبدو أن محاولة إصدار حكم نهائي على القصص الرقمية ومدى تأثيرها أمر غير دقيق، في الوقت الحالي على الأقل، فالعالم لن يتوقف عن التخيل، وبالتالي فإن انعكاس هذا التطور على الفنون لن يتوقف أبدًا، والقصة من أهم الفنون التي تمتلك القدرة على التماهي مع المستجدات، ومن الواضح أن المستجدات في عصرنا الحديث باتت جميعها تتعلق بالإبهار أو "الفانتازي"، وهذا ما يدفع القصة الرقمية إلى مجاراة هذا الإبهار الذي بات يسيطر على خيال الجنس البشري لمواكبة مخيلة البشر الآخذة في التطور يوم بعد الآخر.