الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فدوى عامر تكتب .. كيفك إنت.. (١)

صدى البلد


فتح لها باب السيارة الأمامي وانحنى بابتسامةٍ عريضةٍ مازحًا، بادلته الابتسام شاكرة وطلبت من إبنها الصغير الجلوس بجواره. بَهُت للحظةٍ وارتعشت ابتسامته ثم نظر إليها معاتبًا، وقبل أن يتحول العتاب من عينيه إلى شفتيه بادرته قائلة: "معلش.. كدة أحسن". تقبل كلماتها كالأمر دون أن يراجعها، ونظر للصغير ذي الخمسة أعوام بحنوٍ لم يعهده في نفسه تجاه الأطفال وأشار إليه أن يدلف داخل السيارة. قفز الطفل إلى الداخل بسرعة وتأكد هو من إحكام جلسته وتوازنه، ثم أغلق الباب والتفت إليها. أمعن النظر فيها وعاود الابتسام متمتمًا: "حمد لله على السلامة.."

كانت لاتزال مكانها تنظر إلى صغيرها وإليه.. غير مصدقةٍ عينيها. أيُعقل أن تراه بعد فراق دام ما يقرب من العشر سنوات؟ لا تصدق هذه الصدفة.. فها هي عائدة من سفرة عمل اصطحبت فيها طفلها وما أن أنهت إجراءات الوصول وذهبت لإحضار حقيبتها رأته أمامها يتبادل الحديث مع أحد الأشخاص. تسمرت مكانها لحظة وشُل عقلها فلم تستطع التفكير: كانت رؤياه أشبه بتلك الصور التي يلتقطها المصورون المحترفون، فيقومون بتظليل وتشويش كل ما حول أبطال الصورة الرئيسيين كي يبرزوا وجودهم ويؤكدوه. ولكن.. أيحتاج وجوده إلى تأكيد؟ لا تظن. أفاقت من صدمتها على طفلها وهو يشدها من يدها لتواصل السير.. فاستسلمت لحركة قدميه الصغيرتين وأشاحت بعينيها بعيدًا في نفس اللحظة التي رآها فيها. تجاهلت عينيه منكرةً وجوده ومضت مسرعة، متعمدةً عدم النظر خلفها. وقفت أمام سير الحقائب منتظرة حقيبتها وهي شاردة. مرت عدة دقائق فاطمأنت لكونه لم يتبعها. تنهدت واستسلمت لذاك الفراق الجديد تمامًا كاستسلامها لفراقهما الأول.. دون مقاومة تُذكر رغم كل ما جمعهما معًا.. رغم كل الحب.. ورغم كل الألم. مدت يدها لالتقاط حقيبتها فبادرها هو قائلًا: "عنك.."

تلاقت أعينهما ويديهما في نفس اللحظة. انتفضت للمفاجأة فسقط قلبها في باطن قدميها وتعثرت الكلمات على شفتيها المرتعشتين فتلعثمت ولم تنطق. ظلت عيناها زائغةً بينما هو ينظر إليها ويطبق على مقبض حقيبتها بقبضة قوية حتى لا يفلتها.. حتى لا يتركها تمضي كما تركها من قبل. تصاعدت أنفاسه رغم محاولته السيطرة على ما اعتراه من أحاسيس متضاربة، متلاطمة كتلاطم أفكاره: كم ود لو كان يستطيع أن يحكم ذراعيه حولها، ولكن لسنوات الفراق حواجزٌ لابد من التمهل قبل اجتيازها.. ولطفلها الذي يلهو محاولًا القفز على سير الحقائب أحكامٌ لابد من الرضوخ لها. تركت له مقبض الحقيبة واعتدلت واقفة، ثم أمسكت بطفلها قبل أن يجري بعيدًا واحتضنته حتى كادت أن تعتصره وأغمضت عينيها لثوانٍ.. واستدارت لتواجهه ثم فتحت عينيها لتراه: كانت الشعيرات البيضاء قد تناثرت على فوديه، وتجاعيد كثيرة قد غزت وجهه وملامحه.. ولكن عيناه لم تتغير. ابتسمت فأشار لها بيده أن تمضي أمامه وهو يتبعها حاملًا حقيبتها إلى خارج المطار. سألها عما إذا كان هناك أحدٌ بانتظارها فهزت رأسها نافيةً، فعرض عليها أن يقتادها حيث تريد. سارت مسلوبةَ الإرادة إلى جواره: تبًا لهذا الرابط الخفي الذي مازال يشدها إليه فيحكم وثائقها إليه رغم سنوات الفراق.. ورغم كل ما جرى، فيجبرها على الامتثال له واتباعه دون تفكير.

فتح لها باب السيارة فاستوت جالسةً على أريكتها الخلفية، في حين دار هو مسرعًا حولها ليستقر على مقعد السائق ليبدآ رحلتهما معًا. أحكم إغلاق الأبواب والنوافذ ثم أدار المحرك ومكيف الهواء في حركاتٍ سريعةٍ متتالية. كان كالممثل المبتدئ الذي ظل عشر سنوات يحلم بدور البطولة ويؤديه يوميًّا أمام المرآة. وأخيرًا جاءته فرصة البطولة وآن له أن يظهر حجم موهبته الحقيقية والتي بقيت طي الذكرى والحلم طيلة عشر سنوات مضت. نظر في مرآة السائق وأعاد ظبط زاويتها وثبتها ثم ابتسم وهو ينطلق بالسيارة؛ فلقد أحال المرآة في لحظة لإطار جميل لعينيها العسليتين اللتين أدركتا مكره فتعمدتا أن تهربان منه بعيدًا عبر النافذة. رقص قلبها رغمًا عنها لرؤيته.. وها هو يتمايل في نشوةٍ وكأنه قد عاد مجددًا للحياة برؤية الحبيب.. ذلك الحبيب الذي فشل في إخفاء لهفته وشوقه. تملكها شعور أنثوي جميل بالزهو.. فتدللت ومدت يدها تعبث في حقيبتها لتخرج منها نظارتها الشمسية. ارتدتها ونظرت له في المرآة.. فانتشت لأمارات الخيبة البادية على ملامحه، وازدادت زهوًا أنه لا زال أسير عينيها.

بتذكر آخر مرة شفتك سنتها
بتذكر وقتا آخر كلمة قلتها
وما عدت شفتك.. و هلأ شفتك
كيفك إنت.. ملا إنت
كانت تلك هي الكلمات التي انسابت من مشغل الأغاني الذي أداره بعد أن بادرها بكلمات الترحاب المعتادة. ردت على كلماته باقتضابٍ شديد كمن لا يرغب في الحديث. احترم رغبتها وترك صوت فيروز الملائكي يتكلم بلسان حاله. ظل يسترق النظرات لعينيها في المرآة متوسلًا إليها أن تزيل هذا الحاجز الزجاجي الذي يفصلهما. لم تستجب له وفي ذلك بعضٌ من دلالها والكثير من عزةِ نفسها: كيف لها أن تتخطى حدودًا لا تعلمها وأن تتعدى على أرضٍ ربما لم تعد أرضها؟ حاولت النظر خلسةً إلى خنصر يده اليسرى المسجاة على مقود السيارة. تأكدت من عدم وجود خاتم زواج فأراحها ذلك بعض الشيء. أدارت عينيها ونظرت للطريق المزدحم بالسيارات. باغتها سائلًا إياها عن وجهتها.. فقالت له: "بيتنا.. ما أنا رجعت بيت أهلي بعد ما انفص.." بترت كلمتها قبل أن تتمها. فليس من حقه أن يعلم عنها شيئًا. تلعثمت مجددًا وأزاحت خصلة من شعرها البني خلف أذنها كعادتها عندما ترتبك. لماذا كشفت له سرها؟ لماذا خانها لسانها؟ نظرت إليه في المرآة فوجدته ناظرًا أمامه. اطمأنت إذ ربما حال ضجيج السيارات وصوت فيروز بينه وبين كلماتها الأخيرة فلم يسمعها..

كان طفلها قد استسلم للنوم فأزاحت نظارتها فوق رأسها ومدت يدها لتربت على رأسه. انساب عبير عطرها في السيارة ما أن تحركت من مجلسها. مازال عطرها هو نفس العطر الذي لم يفارق أنفه.. ولم يفارق دفتر مذكراتها -والذي أعطته له يوم أن افترقا- طيلة عشر سنوات مضت. اجتاحه شعور غريب بأن عطرها يحتضنه فيذيب بدفئه ودفء صاحبته جليد العشر شتاءات الماضية. لم ينكر أنه لم يحاول مرارًا وتكرارًا أن ينساها وأن يفعل كما فعلت فيلقي بنفسه في أحضان وهمٍ يصطنعه.. ووعدٍ يعلم مسبقًا أنه كاذب، ولكنه لم يستطع. كان طيفها يطارده كطيف كاثرين في "مرتفعات ويذرينج"، وكان هو كهيثكليف مستسلمًا له، بل ويحبه، ولا يريد الفكاك منه. وها هو الطيف يعود حقيقة يلمسها، بل وتفصله عنها بضع سنتيمترات. لقد سمع كلماتها جيدًا وأكمل ما بترته سرًا ولكنه أبى أن يثير شجونها أو يحرجها.. فتعمد النظر بعيدًا حتى لا تفطن إلى ما يدور بخلده. يكفيه الآن أنه يعلم أنها عادت له.

عاودت النظر إليه في المرآة فالتقت أعينهما فجأة. ارتبكت وأُسقط في يديها فأرخت جفنيها على مقلتيها لتتفادى ناظريه المحبيَّن. انسدلت أهدابها على وجنتيها؛ فخُيِّل إليه أن أهدابها تمتد لتعبر المساحة التي خلقتها بإرادتها يوم أن ابتعدت.. يوم أن فارقته ففارق بفراقها الحياة. ولكن ها هي أهدابها تعود لتغزل شباكًا وتمهد طريقًا رغمًا عنها.. يصل بين عينيها وعينيه، ويُدِب الحياة في أواصر حبهما من جديد.
بترجع ع راسي.. رغم العيال والناس
إنت الأساسي.. وباحبك بالأساس
باحبك إنت.. ملا إنت
وصلا إلى بيتها القديم الذي لم يتُه عن دروبه قط. ترجَّل من السيارة طالبًا منها أن تبقى بالداخل إلى أن يحضر حقيبتها من الخلف. بادره حارس العقار وأخذ منه الحقيبة فاستدار هو عائدًا إليها وفتح لها باب السيارة ثم تولى عنها حمل طفلها النائم رغم إلحاحها أن يتركه لها. حمله بين ذراعيه وأحاطه بسترته وأمرها بعينيه أن تسير أمامه. أدارت المفتاح في الباب واتجهت إلى غرفة النوم وهو يسير ورائها بخفة حاملًا هذا الجزء الصغير منها.. والذي يحمل نفس هدوء ملامحها وغمازة خدها الأيسر، ولم يتركه رغم محاولاتها المتكررة إلا في فراشه. وضعه ثم تركها تخلع عنه نعليه وتحكم الغطاء حوله وانصرف هو معاودًا طريقه إلى الخارج. هرولت وراءه شاكرةً ومدت يدها لتسلم عليه. كم كان يود لو طبع قبلة على باطن يدها كما كان يفعل بالماضي.. ولكنه أدرك في قرارة نفسه أنها ليست مستعدةً بعد.. فاكتفى بأن أمسك يدها هامسًا لها بأنه سيتركها الليلة لتستريح على وعدٍ بأن يُهاتفها صباحًا للاطمئنان عليها.

كان رقمها كما هو.. وكان البيت كما هو.. كان كل شيء كما كان.. تمامًا كمشاعرهما.. تمامًا كسابق عهدهما..
وقد كان هذا يكفي..
كان
هذا..
يكفي.

يُتبع...