الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فدوى عامر تكتب : كيفك إنت.. (4)

صدى البلد

نعم.. لقد قررت أن تقطع عليه كل الطرق، لم تنتظر حتى يُهاتفها هو كما قال بالأمس. ولكن بادرته هي بالاتصال. لا مكان في قلبها لوعودٍ جديدة ولا لأحلامٍ يُكتب لها الاحتضار. لقد مات قلبُها يوم أن فارقته ولا سبيل لإنعاشِه. الله وحده يعلم كم تعذبت يوم أن اختارت الفراق طواعيةً، يوم أن واجهته برغبتها في الرحيل، لحظةُ ما نظر لها مطولًا، ثم ساد صمتٌ كئيب بينهما حتى كادت تسمع صوتَ تقطعِ نياط قلبها. 

لم تتوقع ردةَ فعله.. لم تتوقع أن يتقبل قرارها. كانت تتوقع ثورةً وغضبًا، فقرارها لم يكن جادًا وإن كان مطروحًا. لم تدرِ حقًا أي شيطانٍ تملكها آنذاك وأقنعها أن الحياة ما زالت أمامها وأنها ليست مستعدةً بعد لأي ارتباطٍ يضع إطارًا ثابتًا لعالمها، لعله نفس الشيطان الذي عقد لسانَه وكبح جماحَ غضبه وأنزل الجليد على عاطفتهما الدافئة فأحالها إلى جبلِ ثلجٍ تصاعد بينهما في لحظة.

لم تنس قط ذلك اليوم الشتوي الممطر، ولا نظرته يومئذٍ، وتحولها من هيامِ ووله العاشق المحب لقسوةِ وبرودةِ الموت. مات الحبُ بعينيه في لحظة، حتى أنها لم تضطر إلى قول المزيد مما كان في جعبتها من مبررات. كانت رغبتها وحدها سببًا كافيًا بالنسبةِ له للرحيل. لم يكن بحاجة لسماع قائمةِ أعذارها الطويلة ولا جدالها. ساد صمتٌ كئيب.. ثقيل.. مرعب.. مظلم. مات الحبُ بناظريه اللذيّن ما لبِث أن حولهما عنها، ثم أشاح بكاملِ جسدِه وابتسم ابتسامةً خاليةً من أي معنى، ولَملَم أشياءَه من على المائدة التي تفصلهُما.. ورحل.

تركها تتلاطمها الأفكارُ والمشاعر، فتداعت الذكرياتُ أمام عينيها كشريطٍ سينمائيٍ يدور بسرعة حتى أنها لم تستوعب أنه رحل فعلًا. ظلت مكانها للحظاتٍ ترقبُ وقع خطواتِه الثقيلة وهي تبتعد عن محيط عالمها. أصابتها رعشةٌ ورغبةٌ محمومة في الانقضاضِ عليه ومواجهته بأنها لم تكن فعليًّا تريد الرحيل بقدر ما كانت تريده أن يتشبث بها. 

ظلت تنظر إليه حتى وصل إلى بابِ المقهى فتمهل قليلًا.. ثم توقف. عاودها الأمل في أن ينظر وراءه ويعود لها ثائرًا رافضًا متوعدًا، فليفعل ما يريد ولكن فليعد أدراجه لها. تثاقل جفناها فأطبقتهما رويدًا رويدًا حتى لم تعد ترى سوى قدميه.. وهو ثابتٌ مكانه أمام باب المقهى. ارتعشت شفتاها تود أن تنادي اسمه حتى ولو للمرة الأخيرة. خرج البخرُ من فمها كمن يلفظ الرمقَ الأخير، ثم أطبقت شفتيها على خواء.. فلقد مضى.

دست يدها في حركةٍ لا إرادية في حقيبتها وأخرجت دفتر مذكراتها معه، حيث قامت بتدوين ذكريات سني حبهما، في محاولةٍ أخيرة للنجاة من فراقٍ كُتب عليهما. هرولت وراءه إلى خارج المقهى ثم وقفت أمامه قبل أن يعبرَ الطريق وأعطته إياه. أخذه منها في حركة ميكانيكية كما لو كان لا يراها، حتى إنه لم ينظر للدفتر. كانت تود استفزازه ليعود، أو الخلاص منه للأبد.. وقد كانت الثانية. فلماذا تنتظر العودة الآن؟ أيُ عودةٍ تلك بعد فراقِ عشرة أعوام، بعد محاولاتها المستميتة البائسة في نسيانه، بعد زواجها، وموتها بدل المرةِ ألف مرة على فراشِ رجلٍ يضاجعُها دون أن يعرفها.. تقول الأوراق أنه زوجها، ولكن يعلم الله أنها أبدًا لم تهبه نفسها. كيف تهبه ما لم تعد تملكه؟ ما تركته بين يدي حبيبها وبين عضديه، وفي أحضانه.. لقد ماتت واستسلمت للموتِ منذ زمن حتى رغم انفصالها.. والله وحده هو من يحيي الرميم.

"تمام.. تمام. خلاص حأعدي وقت أما أفضى. متشكر أوي لذوقك وآسف إني دربكتلك جدولك المشحون!"
قالها بتهكمٍ واضح وأنهى المكالمة سريعًا ثم قذف بهاتفه على الأريكة وضرب بقبضةِ يده الحائط. باغتها بوجودِه، بجذوةِ حبه المتقد، بلهفةِ مشاعره، فباغتته كعادتها ببرودِها، برحيلِها، بجفافِها غير المبرر. استعاد نفس إحساسه يوم أن صرحت له برغبتها في الرحيل. كان يعلم يوم أن أحبها أنها كالجواد الجامح، لا سبيلَ لترويضها. كان يعلم أن أهواءها تتملكها وتفرض عليها سلطانها فتجعلها تهيمُ كالرحالة. كانت تريده مرفأً، ترسو إليه وقتما تريد دون قيود، وتهجر شطآنه يوم أن يحلو لها الهجر، دون شروطٍ أو وعود.

كان هو ويا للعجب مستعدًا لهذا كله، ومتقبلًا له دون رغبةٍ منه في أن يغيرها. فهي حبيبته وهو لا يملك من أمرِ حبه لها شيئًا. كان يعلم تمامًا أن أيةَ محاولةٍ منه لترويضها هي حكم على حبهما بالفشل، فوضع حبه لها فوق كل إحساسٍ غريزيٍ وفطريٍ برجولته، وفضلها على نفسه، وآثرها على كبريائه. فضل أن يحتويها على أن يروضها.. ولكن ما فاجأه حقًا يوم رحيلها أنها رفضت حتى أن يحتويها.. وفضلت الرحيل. أماته ذلك يومها، وأمات روحه، ودمر وهمًا كاذبًا كان يعيشه بأنها حتمًا تعلم كم يعاني منها ومعها.. فاتضح له أنها لا تعي ما يكابده.. ولا تدري حتى ما جنت عليه يومئذٍ، ولا فيما تلى من أيامٍ، وعلى مدار عشرة أعوام كاملة، في كل ليلة يبيتُها وحيدًا وهو يحلم بعودتها، وفي كل نهارٍ يطلع عليه ليُفيقه من حلمه ويخلف وراءه ألمًا جديدًا يضاف إلى رصيد آلامه.

كان يعلم علم اليقين أنها تكذب، وأنها لن تكون بالعمل. تمامًا كما علم بعد ثلاث سنوات من فراقهما بعذابها والألم الذي تعانيه جراء زواجها الوشيك آنذاك من هذا الرجل الذي رآها تسير بجواره كلوحِ ثلج. رآهما في أحد المجمعات التجارية ينتقيان لوازم بيتهما. ظل يتتبعهما خلسةً فاقترب قدر المستطاع ليراها. كانت قد فقدت نصفَ جمالها.. وسحقت كامل كيانها بيديها لا لشيءٍ سوى لتتمادى في عندها. لا ينكر أنه لم يُشفق عليها يوم أن رآها، بل أنه يعترف أن رؤيتها على هذه الحال أشفت بعضًا من غليله. ولكنها من جهةٍ أخرى وضعته في أقسى مواجهةٍ مع نفسه: هو لازال يحبها.. برغم كل ما جرى.. برغم ما حمله الماضي من تعب، وبقدر ما قد يأتي به الغيب من فرص.

كانت قبضته لا تزال تؤلمه. شعر باختناقٍ شديدٍ وبغثيان. ربما نتيجة لكل أقداحِ القهوة التي لم يكف عن تجرعها منذ ليلةِ أمس، والذكريات التي لم يكف عن اجترارها طوال ما مضى من سنوات. شعر بأنه يريد استنشاق بعض الهواء.. تناول مفاتيح سيارته وخرج مسرعًا على غير هدى. ظل يجوب الطرقات رغم ازدحامها في هذا الوقت من اليوم حتى وجد نفسه خارج حدود المدينة. أوقف سيارته وترجل منها وسط الصحراء المترامية الأطراف. كان يود لو كان يستطيع الصراخ. ولكن ما به من ألم يفوق قدرته على النحيب. اكتفى بأن نظر في الفراغ.. إلى سماء ذلك اليوم القارس البرودة.. اكتفى بلسعةِ البرد التي أصابته فاخترقت جسده برعشاتٍ متتاليةٍ كاويةٍ ومؤلمة. يكفيه ما كابده من ألم.. يكفيه ما عاناه.. يكفيه حبًا لها.

كان النهار قد انتصف وهي لا تزال في فراشها. ما زال أمامها نحو أربع ساعات قبل أن يعود طفلها. كانت قد أعطت السترة لرجل الأمن وأبلغته بأن هناك من سيأتي لأخذها. شددت عليه أن ينكر وجودها بالمنزل، وأن يعلمها متى آتى صاحبُ السترة. أطفأت الأنوار وأغلقت الستائر وأماتت كل أثرٍ يدل على وجودها ثم ذهبت للاحتماء بغرفتها. كانت في أشد الحاجة لأن تبقى وحيدة.. كما اعتادت من بعد فراقهما. أمضت ساعةً أخرى بالفراش قبل أن يأتيها وقع دقات متتالية على بابها. لابد من أنه رجل الأمن.. سقط قلبها مجددًا خوفًا مما سوف يقوله لها من كلمات ينقلها عنه.. تمالكت نفسها وارتدت خفيها وصلبت نفسها واقفة، ثم اتجهت وهي مترنحة الروح إلى باب شقتها ورفعت المزلاج وفتحت الباب.

- أنا خدت الچاكتة من الأمن زي ما قلتي.. بس انتي ما قولتيليش أسيب له النضارة..

يُتبع..