الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د.إبراهيم تركي يكتب: خواطر حول إصلاح التعليم (2 )

صدى البلد

إذا أردنا أن نواصل الحديث في هذه الحلقة من السلسلة التي نعتزم كتابتها، والتي تتضمن بعض الخواطر حول إصلاح التعليم، فإننا نود أن نلفت النظر إلى أننا قد تحدثنا عن بعض مظاهر الخلل في البحث العلمي وخاصة ما يتعلق بالسرقات العلمية في هذا المجال ، باعتبار أن هذا الخلل يمثل أحد العوائق المهمة التي تقف حجر عثرة في سبيل تقدم البحث العلمي .

وإذا كنا نعتقد اعتقادًا راسخًا بأن التقدم في البحث العلمي يعد من أهم الأمور التي تسهم في التقدم الحضاري المنشود ، فإننا نود في هذا المقام ألا نعير اهتمامًا لتلك الآراء التي تحاول أن تتنصل من مسؤوليتها عندما تلقي بالتبعة على أجهزة الدولة التي لا توفر الإمكانات المادية للإنفاق على البحث العلمي ، أو التي تساعد على سيطرة البيروقراطية المعوقة والمعرقلة لكثير من الأفكار الجادة ، وذلك لأن من ينظر إلى الجهات المسؤولة عن البحث العلمي بموضوعية وإيجابية، أو يقترب من الأشخاص المسؤولين عن إدارة هذه الجهات ، لابد أن يتبين أن مثل هذه الأحكام التي رفضنا ذكرها أو تفنيدها إنما هي من قبيل الأحكام الظنية التي لا تغني من الحق شيئًا ، أو ربما من قبيل الجهل بحقيقة الأمور .

وبغض النظر عن الحديث الموضوعي عن الإمكانات المادية المرصودة للبحث العلمي ، لأن هذا أمر لابد من إرجاء الحديث عنه في هذا التوقيت بالذات وخاصة حتى تتهيأ العقول والنفوس إلى إصلاح ما أفسده الدهر فيما يتعلق بالسلبيات التي أحاول الإشارة إليها ، ولأنه من الثابت أن التغير الذي يحدث في أي مجتمع وعلى مختلف المستويات والأنحاء لابد أن يكون مقترنًا بالتغير الداخلي للإنسان ، بحيث إذا تغير الناس إلى الأحسن تغيرت أحوالهم إلى الأحسن ، والعكس بالعكس .

وإذا كنا قد تحدثنا عن السرقات العلمية باعتبار أنها أفعال إرادية خاصة بأفراد معينين ، فإن هناك بعض الأفراد الذين يقتحمون مجال البحث العلمي تصدر منهم أفعال إرادية مستهجنة على نحو أكثر من استهجان السرقات العلمية، وهي تلك التي تتمثل في شراء ما يقومون به من بحوث .

وقبل أن أستطرد في الحديث عن شناعة فعل هؤلاء الأفراد ، فإني أود أن أسلط الضوء على كلمة يقتحمون ، فإن هناك من طلاب الدراسات العليا من يترك مساره العلمي ويتحول إلى مسار آخر ، وذلك لأسباب لا نود أن نخوض فيها لأن شرحها يطول ، ولأن البحث فيها يسيء إلى معظم هؤلاء الطلاب إساءة بالغة وخاصة عندما ينتهي تحليل هذه الأسباب إلى تقصير هؤلاء الطلاب على نحو مخجل في مسارهم الأصلي .

ومن المعلوم أن الطالب الذي يقوم بتحويل مساره العلمي بعد حصوله على الدرجة الجامعية الأولى لابد أن تكون لديه القدرة على مواكبة المسار الجديد ، وإلا فإنه سيكون (( قد رقص على السلم )) ، فلم يره من يوجد أسفل السلم ولا من يوجد أعلاه .

وأيًا ما كان الأمر ، فإنه قد لوحظ في السنوات الأخيرة أن هناك عددًا من طلاب الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه يقومون بشراء رسائلهم . وقد استفحلت هذه الظاهرة إلى حد أنه قد أصبحت توجد (( مراكز)) يذهب إليها الطالب باسم البحث أو الرسالة التي سجل فيها ، ويطلب شراءها ، ويتفاوت السعر بحسب عدد المرات التي يقوم الطالب بإعادتها إلى المركز لتصحيحها .

والأخطر من ذلك أن الطالب الذي يريد تقديم خطة مبدئية لرسالة مقترحة ، فإنه يذهب إلى أحد هذه المراكز والتي أصبحت معروفة (( عيانًا بيانًا )) .

والمشكلة في شراء البحوث العلمية أصبحت مشكلة مزدوجة ، فإن الكاتب الحقيقي لهذه الرسالة ، وهو مأجور ، يريد أن ينتهي سريعًا ليحصل على أجره ، ولا يعنيه دقة البحث والتزامه بالمنهج العلمي وتحريه للموضوعية في أحكامه . والطالب الذي يدفع ويريد مقابلًا لما رفعه لا يعرف شيئًا عن محتوى الرسالة .

وقد تتفاقم المشكلة بين الطالب والمركز إذا كان الأستاذ المشرف يراعي ضميره ولا يعطيه إجازة أو أقراص مهدئة أو منومة أو مسكنة ( كما يقول بعض أشباه الأساتذة الذين لم يرتقوا إلا بمثل هذه الوسائل ).

وهنا تظهر مشكلة أخرى في علاقة الطالب الذي لا يعرف إلا القيم المادية بكل أشكالها وبين الأستاذ المشرف .

فقد لا تكون هناك أي مشكلة إذا كانت الطيور على أشكالها تقع ، وتوافقت مصلحة الطالب مع شخصية الأستاذ ، واكتملت المنظومة بأن قام الطالب بشراء ذمة هذا الأستاذ أو ذاك بالثمن الذي يستطيع هذا الطالب أن يدفعه . ومن المعلوم أن العملات المستخدمة في دفع الثمن تختلف من أستاذ إلى آخر .

واستكمالًا بتشخيص الداء ، ورسم الصورة الحقيقية الواقعية لهذه القضية ، فإننا ينبغي أن نشير إلى الأستاذ الحقيقي الذي قد يكتشف السرقة أو الشراء في إحدى الرسائل التي يشرف عليها ، فإنه نظرًا لوجود العلاقة الطردية بين تمكنه في تخصصه العلمي والتزامه بقواعد الأخلاق ، لذلك فهو يتدرج مع الطالب بالنصح والإرشاد أكثر من مرة حتى إذا ما طفح الكيل وأراد الأستاذ أن يتخذ موقفًا قانونيًا حيال هذا الطالب ، فإن الريح قد تأتي بما لا تشتهي السفن ، حيث تتوجه النصيحة بالبعد عن المتاعب إشارة القلاقل .

وإذا كان الأمر بالنسبة لطلاب الدراسات العليا من غير المعيدين أو المدرسين المساعدين يختلف عنه بالنسبة للمعيدين والمدرسين المساعدين ، باعتبار أن أمرهم ينتهي فور حصولهم على الدرجة العلمية الذين يتقدمون إليها ، فإن الأمر بالنسبة إليهم يكون أهون بكثير مما لو كان عليه إذا كان هذا الطالب الذي يقوم بالسرقة العلمية أو بشراء الرسالة من المعيدين أو المدرسين المساعدين ، حيث إن العديد يقفون إلى جواره ضراءً لما يحدث له من ضرر بسبب أفعاله ، مع أن هؤلاء قد ينسون أن مثل هذا الطالب ستقع على عاتقه مهمة تعليم جيل من الشباب ، فإن فاقد الشيء لا يعطيه ، كما أنه قد يكون قدوة سيئة لبعض الطلاب .

وعلى أي حال ، فإننا إذا كنا قد تحدثنا عن كل من السرقات العلمية في مجال البحث العلمي وعن شراء البحوث العلمية من قبل بعض طلاب الماجستير والدكتوراه ، فإننا نود أن نشير إلى أن السرقة العلمية أو شراء البحوث العلمية لا تقتصر فقط على طلاب الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه ، وإنما هناك من الحاصلين على الدكتوراه ( الذين يتقدمون إلى اللجان العلمية للترقية إلى وظائف أساتذة مساعدين وأساتذة ) من يرتكب مثل هذه الأفعال الشنعاء ، فمنهم من يسرق بحوث علمية ومنهم من يشتريها .

وإذا كنا قد تحدثنا في الحلقة السابقة عن السرقات العلمية ودوافعها المباشرة ، فإن هذا الحديث ينطبق على الجميع سواء من طلاب الدراسات العليا أو من الباحثين بعد حصولهم على درجة الدكتوراه .

أما فيما يتعلق بالدوافع المباشرة لقيام بعض الطلاب والباحثين بشراء البحوث العلمية ، فإننا نستطيع إجمالها إلى جانب ضعف الملكات الذهنية وضحالة الجانب الثقافي ، وضعف الشعور الأخلاقي وضعف الوازع الديني أن هناك سمتان مهمتان يتعلقان بشخصية الباحث نفسه وهما :

غلبة القيم المادية لديه إلى الحد الذي لا يقيس معه أي أمر من الأمور إلا بهذا المقياس المادي ، وكأن لسان حاله يقول : (( تستطيع أن تسيطر على العفريت بفلوسك )) ، وقد نسى هذا الشخص وأمثاله أن هناك أمورا لا يمكن أن تباع أو تشترى بالمادة أو أي متعلق من متعلقاتها ، وذلك مثل ضمير الأستاذ أو كرامته العلمية أو سمعته وما إلى ذلك من الأمور التي يستحيل أن يفرط فيها الأستاذ الذي يحترم نفسه ويحترم تخصصه العلمي الذي لم يصل فيه إلى ما وصل إليه إلا بعد بذل الجهد المضني والعمل الدؤوب .

وإذا كنا لا نود أن نفصل القول في القيم المادية باعتبارها أحد الدوافع التي تهيئ الظروف لشراء البحوث العلمية ، لأن فيما ذكرناه ما يكفي للدلالة على ما نريد بيانه .

وإلى جانب ذلك ، فإن الدافع الأخرى الذي يدفع إلى شراء البحوث العلمية إنما يتمثل أساسًا في ضعف المستوى العلمي لهذا الطالب بحيث أنه لا يقدر حتى على جمع المادة العلمية بعد أن يتعثر في اختيار الموضوع . والحقيقة أن هذه مشكلة يندى لها الجبين ، لأنها نتيجة من النتائج السلبية الواضحة التي نعاني منها جميعًا لهبوط مستوى المنتج التعليمي في بلادنا .

وهنا ، فإنه لابد من الإشارة إلى أن الطالب بعد انتهائه من المرحلة الجامعية الأولى يستطيع أن يتدارك ما فاته بقدر الإمكان لو أن لديه الرغبة الصادقة في ذلك والإصرار العميق عليه .

ولكن من الملاحظ أن هذه الرغبة وهذا الإصرار لا يتوافران لدى عدد غير قليل من الطلاب الذين أصبحوا يعلمون علمًا يقينيًا أن هناك مراكز محددة ومعينة لبيع البحوث العلمية ، وذلك فضلًا عن المراكز الإلكترونية التي تعلن عن نفسها عبر شبكة المعلومات الدولية والتي تتعامل باعتبارها وسيطًا بين الطالب الذي يريد شراء البحث ويدفع مقابلًا ماديًا محددًا له وبين الشخص الذي لا يجد عملًا ويريد أن يمتهن أي مهنة يكتسب من ورائها من غير بذل جهد يذكر لأنه تربى على أن (( التجارة شطارة )) وذلك بالإضافة إلى عدم تخصصه في المجال الذي ينفذ فيه البحث المطلوب .

يا لها من كارثة ! كيف يقوم شخص بإعداد بحث مشوه من الناحيتين المنهجية والموضوعية لأنه (( متفبرك )) ، فتظهر فيه السرقات واضحة ، وتبدو فيه التوثيقات مضروبة ، ويسوده التهلهل والاضطراب .

وبعد ذلك لابد أن يأتي الحديث على دور الأستاذ ومهمته إذا هذه المهذلة التي أخذت تتفاقم . هذا ما سنتحدث عنه في الحلقة التالية .