الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد النجار يكتب: الثقة دليل الزواج الناجح‎

صدى البلد

إن من أهم الأهداف التي لأجلها شرع الله الزواج، تحقيق السكن النفسي، للإنسان، وتحقيق المودة والرحمة التي تنسجم بهما طبيعته مع الحياة، مما يحقق التوازن النفسي، الذي يتأهل به للقيام بدوره المأمول في الحياة.

قلة التجارب تسبب العثرات: الحقيقة أننا حين نتزوج، نكون في الغالب قليلي التجارب في الحياة، فنحن نحسن غالبًا اختيار شريك الحياة، على أساس من الخلق والدين والسمعة الطيبة والشكل المطلوب، ونحو ذلك. لكننا لا نحسن في أحيان كثيرة استدامة العشرة بالمعروف مع ذلك الطرف الذي اخترناه بعناية، فسرعان ما تظهر المشكلات بين الأزواج الجدد، أحيانًا لأسباب واضحة، وأحيانًا بدون أسباب، فما الذي جَدَّ، فحَوَّلَ القبول إلى رفض، والارتياح إلى صد، والوفاق إلى شقاق وعناد، إن الإنسان يتزوج طلبًا للسكن النفسي، وتحقيقًا للمودة والرحمة، لكن عدم معرفة كل من الزوجين بالكيفية الصحيحة التي بها يحتوي الطرف الاخر، تعوق استمرار الوئام بينهما، فإذا بالبعض تحت وطأة الخلافات المستمرة، يقرر الخلاص من هذه العلاقة المتعثرة، والبعض الآخر إن أبقى عليها فعلى مضض، وحاله كحال من يتجرع الدواء المر، من غير أمل في شفاء. لذلك فنحن (المتزوجون) بحاجة إلى البحث عن مفتاح السعادة الزوجية: فالسعادة الزوجية لها مفتاح، من ملكه سهلت عليه العشرة، وحقق المعروف والسكن والمودة والرحمة في سعادة وانسجام، فالسعادة الزوجية لها مفتاح، وللمفتاح أسنان، وكل سن منها يسهم بقدر ما في الوصول إلى السعادة المنشودة، وكنت قد تحدثت في مقالين سابقين عن التعاون والاحترام كأساسين مهمين من أسس الحياة الزوجية السعيد، وفي هذه المقالة أضم أساسًا ثالثًا لا يمكن للحياة الزوجية السليمة أن تدوم بدونه وهو الثقة المتبادلة بين الزوجين.

الغيرة المفرطة مفتاح الفراق: إذا كان الزواج مبنيًا على أسس شرعية، والاختيار قد تم بناء على ضوابط إسلامية، فاختار الرجل الزوجة الصالحة من بيت صلاح، واختارت المرأة مَرْضِيَّ الدين، والأخلاق، فإن أول ما ينبغي أن تقوم عليه العلاقة بين هذين القرينين هو الثقة، فمما أوصى به عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما ابنته عند الزواج أنه قال لها: "إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق". وفي حديث جابر بن عتيك الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض فالغيرة في غير ريبة). والغيرة في الريبة تعني الغيرة بسبب حصول شيء يحرمه الله قد ثبت بالأدلة وظهور القرائن، فعند ذلك يجب أن يغار المسلم أو المسلمة على محارم الله؛ أما الغيرة في غير ريبة فهي التي تكون من غير دليل، أو من غير مبرر شرعي، من جانب الرجل، أو المرأة، أو تكون غيرة مدفوعة بحب التملك من جانب المرأة.

ومن الغيرة ما قتل: الشاعر الملقب بديك الجن الذي قتل زوجته على إثر وشاية من حسود، وكان ابن عمه قد علم بسفره، فذهب إلى زوجته (ورد) فلما لم يجد منها إلا الصد، كاد لها كيدًا، واستقبله ابن عمه عند عودته فهيجه عليها وأوهمه بخيانته له مع غلامه (بكر)، فما كان من الشاعر الولهان، المحب التعس، إلا أن دخل عليها فذبحها، ثم جلس عندها يبكي ويقول:

وأجَلْتُ سيفي في مجال خِنَاقِها ... ومدامعي تجري على خديها
فوَحَقِّ نَعْلَيْهَا وما وطيء الثرى ... شيء أعز علي من نعيلها
ما كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الغبار عليها
لكن بخلت على سواي بحسنها ... وأنفت من نظر العيون إليها.

هكذا هي الغيرة من غير ما بأس، جنون وندم، ولذلك فهي غير مشروعة. وهي تؤدي إلى عواقب وخيمة، فما أقبحها تتولد من الشك، وتترعرع في أحضان الشطط.

الظن أكذب الحديث: إن الحياة لا تستقيم ولا تستمر مع الشك وسوء الظن، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) (رواه البخاري ومسلم)، أي إياكم والظن السيء الذي لا يقوم على الأدلة والبراهين، وإنما يقوم على الشك، والريبة، والوساوس، والهواجس، وواردات السوء، والأفكار السوداوية، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم، (فإن الظن أكذب الحديث)، أي أن الناس إذا كان في كلامهم الذي يتلفظون به من صدق وكذب، فإن أكثر ما يرد على خاطرهم من ذلك بسبب الظن يدخل في دائرة الكذب، فلا ينبغي للعاقل أن يحقق ما يجول بخاطره من ذلك بقول ولا فعل، ولكن يصرفه عن ذهنه متذكرًا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات آية: 12). فطريق السعادة بين الأزواج يبدأ من الثقة المتبادلة بينهما، ويجب أن تكون ثقة مطلقة، لأنها مبنية على حقائق، لا على أوهام، أما إذا كانت ثقة تشوبها الشوائب، فهي ثقة في طريقها إلى الزوال، لأن كل ذرة شك ينهار معها جزء من الرصيد الذي في القلب، ويختل معها التماسك الأسري ليبدأ في الانهيار، فالزوج العاقل والزوجة العاقلة هما اللذان يغلقان على أنفسهما باب الشك، ولا يدعانه يتطرق إلى علاقتهما بأي صورة أو شكل، لأن أي مشكلة يمكن علاجها ومداواتها، لكن الشك إذا تمكن من النفس فإنه من الصعب مداواته، وإزالة آثاره.

بالوضوح والصدق تبنى الثقة: فأول ما يجب على كل من الزوجين لتحقيق الثقة، هو أن يحرص كل منهما على أن تكون حياته كتابًا مفتوحًا للطرف الآخر، لا أسرار، ولا خبايا، ولا شيء من الأقوال ولا الأفعال يثير الشك، أو يفتح له الباب، (فعن أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم تزوره وهو معتكف في المسجد, في العشر الأواخر من شهر رمضان، فتحدثت عنده ساعة من العشاء، ثم قامت، فقام معها رسول الله صلى الله عليه واله سلم، حتى إذا بلغت باب المسجد، مر بهما رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ثم نفذا، أي أسرعا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي, قالا: سبحان الله يا رسول الله، وكَبُر عليهما ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا) (رواه البخاري ومسلم). فانظر كيف لم يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشك سبيلًا يتسرب منه إلى نفوس أصحابه؛ فلأن يسد كل من الزوجين الأبواب الموصلة إلى الشك أولى وأوجب؛ لأن الشك يعني انعدام الثقة، ولأن الشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجري من الإنسان مجرى الدم، فما يستطيع شريك حياتك صرفه من الوساوس والهواجس الآن، بتكلف، قد لا يستطيع له صرفًا بعد ساعة أو يوم أو أيام، فالذي ينشد السعادة في بيته، يجب عليه أن يغلق كل المنافذ التي يمكن أن يصل منها هذا الشر إليه وإلى أهل بيته؛ ولا يكون ذلك إلا بالصدق، والصراحة، والوضوح.

لعبة الشك تحطم المشاعر: من المؤسف أن يقوم أحد الزوجين، بلعب لعبة الشك، مع الطرف الآخر، ظنًا منه أنه بذلك يؤجج نار المحبة، ويزيد جذوتها، فقد تتصور الزوجة مثلًا إما لصغر سنها أو قلة خبرتها في الحياة، أو نحو ذلك، أنها حين تحرك شكوك زوجها، فإنها بذلك تحرك عواطفه تجاهها، وتجعله أكثر تشبثًا بها، أو لعله يعرف قيمتها حين يعرف أنها مرغوبة من الآخرين! فإذا بها تتعمد أشياء من شأنها إثارة غيرته وإثارة شكوكه، وهذا يحدث كثيرًا للأسف في هذه الأيام، بسبب الطفرة الهائلة في وسائل التواصل، فإذا بها تلعب بنار الغيرة والشك، وهي لا تدري أن أول من سيحترق بهذه النار هي نفسها، (سُمْعَتِهَا ودينها وشرفها)، فالزوجة التي تتعمد تأجيج نار الشك في نفس زوجها، هي من دون شك آثمة شرعًا، وهي أيضًا سفيهة، لأنها لا تُقَدِّرُ العواقب، فما هي إلا كالمعتوه الذي يلعب بلغم ويلهو به، بينما الحقيقة أنه سينفجر في وجهها في أي لحظة. وكذلك قد يفعل الزوج الأمر نفسه، فيتعمد إثارة غيرة زوجته، بادعاء علاقات محرمة بنساء أخريات، أو ينقل لها مدى إعجاب النساء الأخريات به، أو قد يبدي هو إعجابه بامرأة أخرى فيظهر لزوجته استحسانه لهذه الأخرى ممتدحًا صفاتها، وهو يقصد بذلك إثارة زوجته، وتحريك عواطفها نحوه، وبيان أهميته، ولكن الواقع أنه حين يفعل ذلك فإنه يكون في سفاهة، وقلة من العقل والدين، ثم ماذا ينتظر حين ذلك، وقد زرع بذور الشك بداخلها، إنها لن تنبت إلا الريبة، والتجسس المستمر، والقلق، وانعدام الثقة. لذلك ينبغي على كل من الزوجين أن يقيم علاقته بالطرف الآخر على أساس من الثقة المتبادلة، والطهارة، والحب، والصدق. روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا! ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت) (رواه مسلم). فواجبٌ على الزوجين الحرصُ على سَدِّ كل منفذ من منافذ الشيطان إلى زعزعة الثقة بينهما، والبحث عن العلاج المناسب لما قد يطرأ من ذلك حتى يتم الإصلاح على أكمل وجه.

الغيرة مطلوبة لكن في اعتدال: فالغيرة ـ كما يقول ابن القيم في الفوائد ـ لها حدٌّ إذا جاوزَتْه صارت تهمة وظنًّا سيئًا بالبريء، وإن قصرت عنه كانت تغافُلًا ومبادئ دِياثة. وإن من أهم ما يستعان به لذلك هو طرح الشك، وصرف الظن السيء، وترك التجسس، ليس من قبل المرأة فحسب، ولكن من قبل الرجل والمرأة، ففي حديث جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم) (رواه مسلم).

إن الزواج الذي لا ينبني على الثقة، ويكون الشك والريبة وتتبع العثرات هو أساسه ومبدأه، إنما هو زواج فاشل، وخيرٌ من وجوده عدمه، لأنه يُحَوِّل كُلًا من الزوجين من سَكنٍ إلى سكين، ومن رحمة إلى سيف مسلط على رقبة الآخر.
نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال بيوتنا وبيوت المسلمين.