الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عبد الفتاح دياب يكتب: ما قالتهُ العرّافة

عبد الفتاح دياب
عبد الفتاح دياب

"عمرك قصير".. هكذا أخبرتها العرافة، لذا كانت تُصادق وتُفارق في وقتٍ قياسيّ، لا تسمح لعلاقات الحب أن تبدأ، ما إن تسمع حسيسها تفر كمن رأت شبحًا، تزور السينما والمسارح والأوبرا، وترتاد المقاهي، كل ذلك في يومٍ واحد؛ ولكي يتسنى لها فعل هذا كانت لا تُكمل مشاهدة الأفلام أو العروض المسرحيّة، ثم تسأل صديقاتها عن نهاياتها التي تفوتها، أو ربما تقرأ نهاياتها عبر صفحات الإنترنت.

تحتسي نصف فنجان قهوة ثم بعده رشفتي شاي، تأكل قطعة حلوى ثم قطعة حاذقة، تُسافر وتعود في نفس الليلة، حتى حين تبكي كانت دموعها تُذرَف من عين واحدة !

سهرت مع بعض أصدقائها ذات ليلةٍ، وفي نهاية السهرة دعاها أحد أصدقائها للذهاب إلى بيته فوافقت، دلفا إلى بيته، نزعت عنها معطفها، فيما ذهب ليحضر كأسي شراب، حين رجع إليها لم يجدها، ووجد ورقة مكتوب عليها جملة لم يفهمها "اعذرني.. العمرُ كمارٍ يرفع لك قبعته ثم يمضي".

تهرول في مشيتها، وأحيانًا تعدو، تحسبها دائمًا متأخرة عن موعدها، أو قاصدة موعد هام جدًا، تلك الهرولة أضاعت عليها فرصًا عديدة، مثلًا لو أبطأتْ قليلًا للحقها ذاكَ المُعجب الذي أسرع وراءها ليُهديها باقة وردٍ قبل أن تركبَ الباص، أو أوقفها مُديرُها في العملِ الذي أراد أن يتأسّف على تحرشه اللفظي بها، وكانت عرفت منه أنه ينوي ترقيتها في وظيفتها، قبل أن ترحل عن العمل نهائيًا، لو لم تُسرع في خروجها من حفل فنّي، لذهب لها مخرج شهير عارضًا عليها دور البطولة في أحد أفلامه عندما رأى فيها وجه سينمائي جميل ومشرق تحبه الكاميرات، لو تلكأت قليلًا -قليلًا فقط- للحقت بها ذات العرّافة، وصارحتها أنّ نبوءتها محض وهم وافتراء.

تتصور أنها لو أبطأت وشربت الحياة على مهل سوف تسقط على رأسها مزهريّة وردٍ فوق رأسها من إحدى الطوابق التي تمر أسفلها، تموت فتصدق النبوءة.

رغم معرفتها أن العرّافات يوهمنَ من هو مستعد للوهم، سيطرت عليها فكرة الموت السريع جدًا، ربما لكوننا نحب نعيش دور الضحيّة، أو نحب أن نضيف دراما فوق دراما الحياة الأصلية، لكن بدأت تلك النبوءة تسيطر عليها أكثر لاسيما بعد مشاهدتها لفيلم يحكي عن القصة الحقيقية لحياة ممثلة الهوليود الشهيرة "ناتالي وود" ووفاتها المثير للجدل، حيث ماتت غريقة أثناء إحدى نزهاتها، وكانت قد أخبرتها إحدى العرافات أنها ستموت غريقة، بالمناسبة هذا هو الفيلم الوحيد الذي أكملته، فاعتبرته إشارة لصدق نبوءتها.

فيما تشاهد "دلال" عرضًا مسرحيًا لقصة "هاملت"، يجلس "طارق" على كرسيه الخشبي الهزّاز، يدخن تبغه بتؤدة، منصتًا لصوت "أم كلثوم" صادحًا من المذياع، متلذذًا ومتمايلًا معها، متقمصًا كلماتها، فعندما تصدح بمقطع عتاب، تراه يهز رأسه معاتبًا، أو يده لائمًا، يعيد المقاطع التي يحبها عدة مرات مستمتعًا، متجرعًا قهوته التي تبرد منه دائمًا، لأنه يرتشفها ببطء، يرى أنّ إهانة للقهوة أن يشربها بسرعة، حين انتهت الأغنية أو بالأحرى حين لم يعيدها للمرة السابعة، شرع يفكر في أمره الذي وصل إليه، عن مدرسته الخاصة التي فُصِل منها بسبب شكاوي الطلاب من بطئه في شرح المنهج الدراسي، لدرجة أنه لم ينتهِ من شرح نصف المنهج رغم حلول امتحانات العام الدراسي.

يتلذذ في شرح مادته الأثيرة اللغة العربية، حين يتناول نصًا شعريًا لأبي فراس الحمداني مثلًا، تجده يتغزل فيه كأنه محبوبته، ويمكن أن يطول شرح النص إلى عشر حصص مدرسية.

يفسر قناعته بأن الله خلق الكون من أجل الجمال، والاستغراق في الجمال فضيلة، والتلذذ به لا يتأتى أبدًا بالتسرع، بل بالرشفة العميقة تلو الرشفة، لذا يمكن أن تجده متأملًا لوحة جميلة لساعة كاملة مثلا، يشاهد الأفلام التي يحبها مرات ومرات؛ علّه يكتشف فيها شيء جميل جديد، يسير بين الناس ببطء، مُحملقًا في وجوههم، وفي تفاصيل الطرقات، حين يقود سيارته تنهال عليه الشتائم من كل حدب وصوب لبطئه الشديد، يتأخر عن مواعيد أصدقائه، لذا هجروه، حين أعجبته زميلة جامعية، قرر أن يصارحها بعد ثلاث سنوات من إعجابه، جاءها، تلعثم في كلامه، وقبل أن يأتي الفرج استأذنت منه متجهة لزميل آخر تزوجته بعد مرور أسبوعين فقط.

بدأ يعد خساراته جراء بطء إيقاعه الحياتي، ورغم ذلك لم ينوِ تغيير أسلوبه في الحياة، لأنه يحب الجمال حد القداسة.

قرر طالما متوقف عن العمل أن يذهب للتنزه، صادف ذلك احتفالية تعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني في معبد أبي سمبل في شهر فبراير، فقرر حضور هذا الحدث النصف سنوي، ذاهبًا إلى محطة القطار.

انتظر "طارق" القطار، غير متأفف من انتظاره، يشغل وقته بالتأمل في وجوه المارة، بائعي المناديل والحلويات، الشحاذين، رجال الشرطة، الأطفال، النساء الجميلات، شرد في وضعه، حيث هو البالغ من العمر ثلاثين عامًا وما زال أعزبًا، يتنهد ببطء، مشعلًا سيجارة أخذ منها نفسين اثنين فقط، ورماها عندما أحرقت ما بين إصبعيه.

وصل القطار إلى المحطة، فضّل "طارق" أن ينتظر بالخارج إلى أن يبدأ القطار في التحرك، غير متعجل كعادته، بدأ القطار يتحرك ببطء بالفعل، لم يقم من مكانه إلا حين وقع شالٌ من الكشمير عن فتاة جرت لتلحلق بالقطار، فزعت وهي ترى شالها على رصيف المحطة، غير مستطيعة أن تنزل من القطار لتلتقطه ثانية، التقطه هو بالنيابة عنها وصعد القطار بسرعة، شكرته جدًا وبالغت في الشكر، أخبرته أنها ورثته عن أمها التي أحببتها بشدة، لم يرد على شكرها لأنه كان منشغلا باستنشاق الأريج الذي فاح من الشال ومن تلك الفتاة التي تقف بالقرب منه كمنحوتة لفتاة أرستقراطية جميلة، لمّا عاد أدراجه وجدها تعرض عليه أن يجلسا سويًا فلم يجد سبيلا إلا الموافقة.

ركبنا آخر قطار في المحطة، اشتمت من شذاه رائحة التبغ، فطلبتْ منه سيجارة، أعطاها بمهل آخر سيجارة في عُلبته، أشعلها لها بآخر عودِ ثقاب، جالسان في آخر عربة، يمارسان رفاهية البوح والحزن معًا، شعرا بمرارة، فقدّم لهما مارٌ آخر كوبي شاي مُحلّى في جُعبته، سمع حديثها عن ليالي الشتاء ووحدته، قصّ لها آخر ليلةِ شتاءٍ قضاها تحت المطر والضجر، قرر أن يتخلص من عقدة بطء الإيقاع التي قصمت ظهره كثيرًا، بينما يحكي ألقتْ برأسها على كتفه كعصفورةٍ، وضع يده على شعرها، فبدأتْ أولُ قصّةِ حب، قالت له اسمي "دلال"، لم يرد واكتفي بضمّها.