الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

قاسم المحبشي يكتب: مصر.. عبقرية المكان وذاكرة الزمان

صدى البلد

للجغرافيا حضور بوسائل شتي ولكنها دوما بلا أجنحة، أما التاريخ فهو ذاكرة الزمان والمكان!

ثمة أشياء واشياء خفية تشدني إلى مواطن الحضارات النهرية واولها الحضارة المصرية الراسخة في أعماق التاريخ، وحضارة بلاد الرافدين والكنعانيين، وحضارات الهند والصين واليونان وروما. ربما كان ذلك الانشداد الآسر للحضارات النهرية الخالدة بحافز تخصصي في فلسفة التاريخ والحضارة ودوافع كثيرة أخرى لا أعلمها!

إذ اشتغلت ولازالت منشغلا في مسيرة المغامرة الإنسانية الحضارية منذ فجر التاريخ البشري العام. وقد سنحت لي الفرصة لزيارة حضارة بلاد الرافدين، وشاهدت اثارها التاريخية العظيمة ( أطلال حدائق بابل المعلقة وثور أشور المجنح وأسد بابل وتدمر في الشام والبتراء في الأردن وحينما زرت مصر لأول مرة وأنا في طريقي إلى المغرب العربي بغرض التفرغ العلمي بجامعة سيدي محمد عبدالله بفاس. مررت في أم الدنيا التي اعرفها قبل أن تعرفني؛ عرفتها من كتب التاريخ والحضارة وكتبت حينها في مثل هذا اليوم من عام ٢٠١٣ وكأنني اكتشفها لأول مرة إذ كتب يومها مايلي:

مِصر ، هبة النيل، أم الدُنيا، أرض الكنانة ؛ تلك الكلمة المكتوبة على أجنحة التاريخ والحضارة منذ أقدم الأزمنة، تلك البلاد الباذخة بالدلالات والأخلية التي ينثر النطق بها كنانة شاملة من الحنان والمحبة؛ أم الدنيا، الزاخرة بالرموز والمعاني الخالدة: إيزيس أمون، رمسيس حورس، ابو الهول أهرامات الجيزة، اخناتون، نفرتيتي، كليوباترا، ارخميدس، هيباتيا، والأنبياء موسى ويوسف وهارون وعزيز مصر، وزليخا، وافلوطين وعمر ابن العاص، ونابليون، وحجر رشيد، ومحمد علي باشا، والأزهر الشريف وسعد زغلول وأحمد عرابي وطه حسين والعقاد وأم كلثوم واحمد شوقي وأحمد زويل، ونجيب محفوظ، والعندليب الأسمر ورياض السنباطي وهدى شعراوي وعلي عبدالرزاق وغيرهم من الرموز والنجوم المتلألأة في ليل تاريخ الشرق الطويل الذين يصعب حصرها بهذه العجالة. لقد كانت مصر بالنسبة لي حلم الطفولة، عرفتها أول ما عرفتها عبر السينما والتلفزيون، عبر المسلسلات والافلام ، ثم من خلال قرأتي للرويات الصادرة من ادباءها ثم عبر كتب الفلاسفة والمفكرين المصريين الذين اضاءوا سماء الفكر العربي الحديث والمعاصر بنتاجهم الفكري والثقافي المتواصل. عرفت لهجتاتها ، واماكنها، من كتاب السر وروايات بين القصرين والحرافيش، وعمارة يعقوبيان، وعزازيل وعبقرية المكان، وتكونت لي صورة متخيلة عن القاهرة والجيزة والصعيد والإسكندرية والزقازيق وسينأ، وقناة السويس وجبل المقطم وكل شيء في مصر لديه تاريخ وذاكرة .. فمن أي الأبواب ينفتح المشهد ومن أي النوافذ يمكن الإطلال على هذه الواحة الأفريقية العربية المترامية الأطراف والوارفة الظلال ؟ ومن أي الأسوار يمكن تسلق قلعة التاريخ والحضارة الإنسانية الراسخة العمق في قلب الأرض؟ وكيف يمكن فك شفرات رموزها الصامتة؟

حينما تكون في مصر يجب عليك أن تجمع قواك العقلية والنفسية والجسدية كلها أن أردت التكيف مع إيقاعها الزاخرة بالدينامية الفاعلة. والقاهرة هي المدينة التي لا تنام.
في القاهرة تتمنى أن لا يأتيك النوم
فكل شيء هنا جميل وحميم ومبهج.
إنها عبقرية المكان وذاكرة الزمان.

والجغرافيا تحضر بطرق شتى لكن التاريخ هو ذاكرة المكان والزمان. وفِي مصر فقط يمكن رؤية ذلك العناق الخالد بين المكان والزمان، بين الجغرافيا والتاريخ، بين الناس والوطن بين الخاص والعام. هنا الدولة العربية الأكبر سكان قرابة ١٢٠ مليون نسمة تنمو وتزدهر وتسير بثبات صوب المستقبل رغم الحصار الشديد الذي يطوقها من كل حب وصوب. أنها أم الدنيا كانت وسارت ودامت وستظل. ومازلت احلم بزيارة اثينا وروما والهند والصين لو أراد الله ومنحني العمر والوقت والمال.

وبمناسبة قدومي الثاني إلى القاهرة لغرض التفرغ العلمي بجامعتها العريقة؛ أكاديمية العرب الأولى التي تأسست ١٩٠٨م
كتبت هذا الخاطرة الشعرية حبًا ووفاءا

العشق شوق وانتظار😍

قاهرة كمثل اسمها
لكنني أحببتها
وحسبتها لي موطنا
وكنانة من القفار
للقهر معنى أخر
في هبة النيل العظيم
ما أجمل القهر
الحميم بحضنها
إيزيس إلهة الجمال
فينوس آلهة البحار
نفتيس آلهة الثمار
آتوم آلهة الجبال
أنثى المدئن لم تزل
فاتنة الحياة وأمها
على أنف كليوباترا
وجماله وقف السؤال
على أعتابها وقف المسار
احبها أنطونيوس
فأبى الهزيمة وانتحر
فبادلته الانتحار
أتيت مصرًا باحثًا
عن حضن عامر بالحنان
متأمل التاريخ في نقش
المدافن والحجار
من قمة الهرم الكبير
شاهدت الألف السنين
تروي حضارة زاخرة
بالمجد توجها وغار
والعمق يبدو راسخًا
ليس له بها غرار
للمعجزات هنا آثر
منسوج من ضوء النهار
سألتها يا مصر ؟
من علم اليونان فن الرسم
بالكلمات والمعنى
على جنح الخيال؟
فجاوبتني بصمتها
لعل بالصمت الجميل
تنكشف الدلالة والدوال
فنظرت في وجه الجدار
منحوتة بالرمز والتصوير
هيروغليفية لغة الكبار
كيف السبيل لزائر
لفهم شفرة نبضها
ومعرفة سر الجمال ؟
مالي ومال اللائمين
فأنا المتيم بعشقها
والعشق شوق وانتظار
سأنتظر وسأنتظر
حتى يمل الانتظار
لو ضاقت الأرض بناء
في مصر ملجأنا ودار
أم هي مصر الرحيبة
للصغار وللكبار
هي بوصلتنا والفنار
هي لؤلؤتنا والمحار
فليس لي في حب
مصر من خيار
هي أمنا هي حلمنا
هي ما تبقى من حطام
الروح فينا والحصار
بالرافدين تبرعمت
وفي ضفاف النيل
تزدهر الثمار