الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. سليمان جادو يكتب.. لغتنا العربية سياج هويتنا.. ورباط أمتنا العربية والإسلامية

صدى البلد

لغتنا العربية الفصحى لغة الضاد، هي اللغة الأم ، وهي مرآة شخصيتنا ومصدر فخرنا وموضع اعتزازنا ، وعنوان حضارتنا التليدة وأداة الوحدة لأمتنا العربية والإسلامية.. إنها لغة التنزيل ، لغة الخالق الأعظم، فبها نزل القرآن الكريم كتاب رب العالمين بلسان عربي مبين ، وسعته لفظًا وغاية ، وما ضاقت عن آي به وعظات ! .. لغتنا العربية لها من المكانة والقداسة ما لها .. يكفي أنها لغة كتاب الله العزيز ، فقد اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون لغة التنزيل والإبانة والتوصيل ، واختارها أيضًا في مخاطبة البشر في النبوة الخاتمة ؛ لتكون بفضل الله تعالى هي اللغة السائدة ، وتكتسب العالمية بين لغات الأرض قاطبة ، فاختيار لغتنا العربية لغة التنزيل للخطاب السماوي ، هو بلا شك تشريف لها من بين سائر اللغات ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها .

اللغة العربية لغة يلتقي على حبها المسلم والمسيحي ، لأنها في عقيدة الأول لغة كتابه المنزل ، وعند الثاني لغة قومه وبني جلدته !!

لماذا الاحتفـــال ؟ :

في اليوم (18 ) الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأول من كل عام ، يحتفل الناطقون باللغة العربية في ربوع العالمين العربي والإسلامي ، باليوم العالمي للغة العربية من أجـــل إبراز قيمتها والعمل على تطويرها.. وهو ذلك التاريخ الذي أقرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغة العمل في الأمم المتحدة .

ففي 18 ديسمبر من عام 1973م ، أقر المجلس التنفيذي لليونسكو اعتماد العربية لتكون لغة رسمية سادسة تتحدث بها الوفود العربية ، وتصدر بها وثائق الأمم المتحدة، وأصبحت لغة رسمية في الجمعية العامة للأمم المتحدة والهيئات الفرعية التابعة لها .

مـزايا لغتنا الجميلة وخصائصها :

واللغة العربية تمتلك الكثير من الخصائص والصفات والقدرات التعبيرية ، ما لا تمتلكه أية لغة أخرى أو أي لسان آخر . ويضيق المجال للتدليل على سعة العربية وقدرتها ، وغناء مفرداتها ، ومشتقاتها ، وكثرة مترادفاتها ، التي تمتلك التعبير عن كل حالة شعورية ، ولا يضيق لفظها عن استيعاب أي معنى .

وهي لغة دين ، ولغة أدب وعلم وفن ، انحدرت إلينا منذ خمسة عشر قرنًا إلا قليلًا ، تحمل إلينا في تضاعيفها مشعل الماضي والتراث العربي الأصيل ، كما أنها قادرة على العطاء للإبداعات الحديثة واستيعاب مصطلحات وعلوم العصر الحديث .

ومن الغريب ومما يثير الدهشة أن نجد مَنْ يدَّعِي – جهلًا منه - أن اللغة العربية قاصرة ولا تستوعب مسميات و ألفاظ الحضارة ، ولم تعد لغة للعلم ومستحدثات التكنولوجيا ، وغير ذلك .

وما دري هؤلاء أن لغتنا العربية تحوي من القواعد والنصوص والأحكام والاشتقاق ما لا تتمتع به أية لغة أخرى .. ومن يطالع – على سبيل المثال لا الحصر - كتاب " تاج العروس" للزبيدي مثلًا ، وهو عشرة أجزاء في طبعته القديمة يحوي الجزء الواحد أكثر من أربعمائة صفحة . فقد تضمَّن هذا الكتاب من أصول اللغة ومواردها وفروعها ووسائلها ، ما لا يوجد في كثير من اللغات الأخرى . ولعل كتاب " المخصص " لابن سيدة ، وهو عالم قدير فاقد لبصره ، وقد ألَّف كتابه في سبعة عشر جزءًا تحوي مسائل اللغة وفروعها وقواعدها وخصائصها ومرونتها ، وتفاعلها مع التطور والتجديد .

لغتنا الشاعرة ـ كما وصفها عباس العقاد ـ ممتدة في الزمان امتدادها في المكان ـ وهي لغة القرآن الكريم الذي حقق لها عبر الأزمنة ، الاستمرارية والاستواء ومزيدًا من الثبات والصمود بجذورها وأصولها صوتيًا وصرفيًا ونحويًا ، فتحدت عوامل التغير وسلمت من التبدل ، فهي بحق لغة تنمو وتتسع وتزداد تطورًا يومًا بعد يوم .. كما أنها تمثل مكونًا أساسًا للذاتية الثقافية العربية والإسلامية وداعمًا لها ومصدرًا للاعتزاز بها، وهي أيضًا أداة قراءة الماضي وتشخيص الحاضر واستشراف المستقبل .

وهي أداة للتعبير عن كيان الفرد وذاكرة المجتمع ووسيلة لبناء الفكر والتفاعل والحوار مع الآخر من أجل معرفته واستيعاب ثرائه الثقافي ونهضته ، وهي جسر ثقافة الأمة لبلوغ العالمية ونشدان الإنسانية .

واللغة العربية ، إلى جانب ذلك ، لغة ذات تراث فكري وأدبي زاخر أسهم فيه العرب ومن عاش بينهم أو تكلم العربية من سكان البلدان المفتوحة. وهي في حاضرها لغة حية مبدعة ذات طاقة تعبيرية عظيمة ، مما جعلها لغة التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا في كل التخصصات ببعض الدول العربية ، وجعل أحد أبنائها من الأدباء وهو( نجيب محفوظ ) يفوز بجائزة نوبل ، كما أصبحت منذ حوالي أربعة عقود إحدي لغات الأمم المتحدة وهيئات دولية عديدة .

إنها حقًا لغة الحضارة والثقافة والأدب والعلم والمعرفة والفن والتراث ، لغة تمتاز بعظمتها وعمق أغوارها وكثرة أسرارها ، كما تتسم بحيويتها وسلاستها وجمالها وثرائها ، غنية بمفرداتها وألفاظها وصيغها وأبنيتها وتراكيبها وخصائصها ، وبها كتبت أمهات الكتب اللغوية والأدبية والبلاغية والنحوية،وليس أدل على ذلك من قول امريء القيس قديمًا في بيت له يبرز ثراء اللغة وسعتها :

أفاد وجاد وساد وقاد وزاد وعاد وزاد بأفضل

الحفــاظ على اللغـة :

ظلت لغتنا ـ ولا تزال ـ أزمنة مديدة قوية ثابتة باقية بحفظ الله تعالى لها ، فأصبحت تستوعب جميع المعارف والمصطلحات العلمية المعاصرة والجديدة ، رغم العداء المستحكم لها من أعدائها المتربصين بها من كل جانب ، والسعي إلى طمسها وإحلال لغتهم محلها، بل لاقت العداء السافر من أبنائها العاقين لها .

لقد كانت أول توصيات الحاكم الفرنسي لجيشه الزاحف إلى الجزائر : "علموا لغتنا وانشروها حتى تحكم الجزائر، فإذا حكمت لغتنا الجزائر فقد حكمناها حقيقة " .

وليست توصية هذا الحاكم الفرنسي إلا ترجمة لتوصية سلفه المستعمر (نابليون ) الذي قال لبعثته الوافدة إلى مصر : " علموا الفرنسية ففي ذلك خدمة للوطن " .

ولكن ستبقى العربية مادامت الحياة ، باسقة شامخة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ؛ لأن الله عز وجل أدام لها المجد والقوة والانتصار، وحماها ورعاها بقوله : " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"

ستظل باقية ؛ لأنها تنفرد بين اللغات باستنادها على أكثر من جانب ، فهناك جانب ديني يتمثل في كونها (لغة القرآن الكريم ) ، وتاريخي يتمثل في تطورها ، وثقافي يبينه استيعابها لعلوم غيرها . لهذا نجد أن الله سبحانه قيّض لها من أبنائها المخلصين من يعملون على حمايتها والدفاع عنها رغم المؤامرات والتحديات عل مر التاريخ قديمًا .

وقد واجهت اللغة العربية منذ القدم وعبر تاريخها الطويل ، بقوة وضراوة ، العديد من حملات التشكيك والمؤامرات من بني جلدتنا ومن غيرهم ، وفي كل مرة يتم لها النصر المؤزر على هؤلاء الحاقدين والموتورين ، ولعل آخر هؤلاء ، منذ ثلاثة عشر عامًا تقريبًا ، كان المدعو ( شريف الشوباشي ) ، صاحب كتاب " لتحيا اللغة العربية .. يسقط سيبويه " الذي أثار حينها زوبعة وضجة شديدة ، وكثيرًا من الجدل في القاهرة وفي العالم العربي ، وقد تم الرد عليه في ذلك الوقت من أئمة اللغة وشيوخها المعاصرين ، أمثال الدكتور عبد الصبور شاهين ، الأستاذ بكلية دار العلوم ، والدكتور محمد محمد داود ، الأستاذ بجامعة قناة السويس ، والدكتور جابر قميحة – رحمه الله تعالى – وغيرهم ، في مناظرة تليفزيونية عبر القناة الثقافية في برنامج ( المنتدى ) في حلقة خاصة ، تم بثها على الهواء مباشرة في يوم الثلاثاء الموافق 28 / 7 / 2004 م من إعداد أ / ياسر حسن ، وتقديم أ / منى سلمان ، كما أصدر الدكتور محمد داود بعدها كتابًا قيمًا للرد على أمثال هؤلاء ، أسماه " دموع الشوباشي .. بين يدي سيبويه " .

وعلينا كما يقول الأستاذ / عبدالله بن حمد الحقيل ، في كتابه الــرائع بعنوان :( رفقًا بالفصحي ) : " إن علينا أن نحرص على العناية باللغة العربية الخالدة التي يرتبط بها تراثنا المجيد ، والتي شرفها الله بحفظها بأن أنزل بها القرآن الكريم ، كما قال تعالى : " إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون " سورة يوسف / آية 2 ، وقد تكفل الله بحفظها وخلودها وبقائها ، حيث اختارها لغة للقرآن الكريم ، وألا نلتفت إلى تلك الدعوات والصيحات التي تهدف إلى هدم الفصحى ، والقضاء عليها تارة بإلغاء الإعراب ، وطورًا بالدعوة إلى العامية ، وتارة بحذف بعض قواعد النحو وأبوابه ، إلى غير ذلك من دعوات تيسير قواعد اللغة بغية إقصاء الفصحى وهدمها " .

ماذا قالــوا عن العـربية :

قال الإمام (الشافعي) رحمه الله : " لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا ، والعلم باللغة عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه .

وقال الدكتور( طه حسين ) يرحمه الله: "إن اللغة العربية الفصحى خير أداة لتوحيد الأمة العربية ، والعرب جميعًا يفهمون اللغة الفصحى ، ولقد قاطعت المسرح لأنه يتكلم باللغة العامية " .

ويقول المستشرق (رينان) في كتابه ( تاريخ اللغات السامية ) : " إن من أغرب المدهشات أن تنبت اللغة العربية ، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحل ، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ، ودقة معانيها ، وحسن نظام مبانيها ، ولم يعرف لها من كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة ، ولا نكاد نعرف من نشأتها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى.. إلخ "

إضاعة اللسان إضاعة للذات :

إن شيوع اللهجات العامية يعد من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى تدهور لغتنا الأم ،كما أن مزاحمة اللغات الأجنبية لها في عقر دارها في بيئاتنا العربية لهو الخطر بعينه، مما يمثل أكبر التحديات التي لا يستهان بها ، أضف إلى ذلك ضعف المعلم والطالب معًا ،وفساد المدارس وفشل المناهج في عصرنا الراهن نتيجة سياسات تعليمية عرجاء لا جدوى من ورائها البتة .

وأخـيرًا .. يبقى الأمـــل :

فمما يبشر بالخير والسعادة ، أن صحيفة ( الإندبندنت ) البريطانية قد نشرت تقريرًا عن تزايد الإقبال على دراسة اللغة العربية في بريطانيا ، وقد نشرت هذا الخبر صحيفة الجمهورية القاهرية في عددها (22477) الصادر يوم الأثنين الموافق13/7/2015م ، وجاء فيه أن الصحيفة وضعت عنوانًا مثيرًا لهل يقول : " انسوا الفرنسية والصينية . . العربية هي اللغة التي يجب تعلمها ". وأوضحت الصحيفة أنه رغم صعوبة كتابة اللغة العربية لأنها تكتب من اليمين إلى اليسار عكس اللغات الأوربية إلا أنه يلاحظ تزايد حماس التلاميذ لتعلم العربية ، وأشارت إلى أن هناك بعض المدارس في بريطانيا تقوم حاليًا بتعليم اللغة العربية للتلاميذ في المراحل الابتدائية. وقالت إن ادراج اللغة العربية على لائحة اللغات الأكثر أهمية في مدارس بريطانيا جاء بعد إعلان المعهد البريطاني أن العربية ثاني أهم لغة أجنبية للحصول على عمل في المستقبل بعد الإسبانية ".

علينا جميعًا ونحن نحتفل باليوم العالمي للغة العربية ، الحفاظ على اللسان العربي لأن إضاعته تعني إضاعة الذات ، كما قيل ! و أن نعتز ونفتخر بها ، فهي لغة القرآن الكريم والسنة النبوية ، ولغة تراث الآباء والأجداد قدامى ومحدثين .. وهي أم اللغات ، وكما قيل أيضًا ، " بنت عدنان " ، و" لغة الضاد " التي ظلت تطلق عليها حتى يومنا هذا .

ولله در القائل ، وهــو (المتنبي) إِذْ يقـــول :

لا بِقَوْمِي شَرُفْتُ بل شَرُفُوا بِي * ** وبنفــسي فَـخَرْتُ لا بجُــدُودِي

وبِهِـمْ فَـخْـرُ كلِّ مَنْ نَطَقَ الضّاد *** وعَـوْذُ الجانِي وغَوْثُ الطّريدِ

وقال شاعر آخر :

إن الذي ملأَ اللغاتِ مَحاسِنًا * ** جعل الجمالَ وسِـــرَّهُ في الضـــادِ