الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

«زمن الرواية».. بقلم د. عزوز علي إسماعيل

صدى البلد

ثمة حقيقة لا بد أن نذكرها وهي أن الشعر العربي ظل مهيمنًا على الساحة الأدبية إلى ما يزيد عن سبعة عشر قرنًا من الزمان، وفي تلك الحقبة ظلت مقولة "الشعر ديوان العرب" هي الوسام على الصدور إلى أن جاءت الرواية مع بدايات القرن الماضي لتهـزَّ عرش ذلك المارد الأدبي القوي وتضيف مقولة : إن الرواية هي الأخرى ديوان العرب، وما يدلل على ذلك تلك الإبداعات المتوالية للرواية العربية؛ حيث لا يمكن أن نحصر الأعداد الغزيرة للرواية المطبوعة في هذه الأوقات، فلم يكد يمر شهر إلا ونجد أعمالًا إبداعية غاية في الجمال والروعة تنم عن عقليات عربية متفتحة.

ومما لا شك فيه أن حصول أديب مصر والعالم العربي نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب في القرن الماضي قد أكد على وجود الرواية العربية بقوة، الأمر الذي شجع الكتاب على شحذ أقلامهم للكتابة الروائية فظهرت المئات من الأعمال الروائية في كافة أقطار الأمة العربية. 

حيث أصبحت الرواية هي متنفس الشعوب والمعبرة عن الآمال والآلام، فظهرت مؤخرًا الرواية المعبرة عن ثورات الربيع العربي حيث التقطت الفكرة من ذلك الحراك الثوري، وعبرت كذلك عن الانتهازيين الذين يتحينون الفرصة للبحث عن مكسب معين من الوطن أو فرض رأي بعينه كما في رواية " الطلياني " للتونسي شكري المبخوت، حيث أخذ الفكرة من الثورات العربية عامة والتونسية خاصة وبدأ يعبر عن الأفكار المختلفة التي تمور بداخل المجتمع العربي؛ سواء أكان عند اليساريين أم الإسلاميين، وكذلك رواية " شمس منتصف الليل" للكاتبة أسماء الطناني التي حاولت فيها أن تعبر بقدر المستطاع عن ثورة 25 يناير، وهناك من ذهب بعيدا ليعيد لنا التاريخ في شكل أدبي رائق وهو ما كان في " شوق الدرويش" للكاتب السوداني حمور زيادة.

وكان لزامًا على النقد الأدبي أن يتواكب مع روح العصر وذلك التطور في الكتابة الروائية، وما تمخض عنه من تداعيات عديدة، الأمر الذي انعكس على طرق تناول الرواية نقديًا فلم تعد البلاغة القديمة هي الطريق النقدي في فهم الرواية، ولم تف الصورة الجمالية بحاجة البلاغيين لاستيضاح ما في النص من غموض وأصبحت الحاجة ملحة إلى سبر أغوار النص الأدبي بسبل أخرى أكثر عمقًا وثراء، فكانت الدراسات الحديثة التي امتطت صهوة الشعرية للوصول إلى كنه النص الأدبي، خاصة حينما أراد الشكليون الروس وضع قوانين للخطاب الأدبي، وأيضًا في عالمنا العربي، حين أفاق النقد العربي على ما استجد من مناهج لدراسة تلك الأعمال؛ ذلك أن هذه الأعمال وغيرها لا بد أن تدرس بمنظور آخر غير الذي كان سائدًا من قبل ؛ منظور فيه فكر نقدي جديد يتماشى والتحدايات المهيمنة على الساحة النقدية.

هناك مرحلتان سبقتا مرحلة النضج الروائي الأولى منها تتمثل في الإرهاصات الأولى للرواية قبل رواية زينب والمرحلة الثانية مثلتها رواية زينب وما جاء بعدها بينما المرحلة الثالثة من مراحل تطور الفن الروائي فكانت على يد نجيب محفوظ وهنا أصبح هناك إكتمال للنضج الروائي إذا ما اعتبرنا المراحل السابقة هي بداية للنضج والتفتح الروائي فإن مرحلة نجيب محفوظ هي الإكتمال الحقيقي للكتابة الروائية والتي أصبحت مثالًا سار وراءه الكثيرون محاولين التقليد والإضافة الأمر الذي جعل للرواية مكانتها العظيمة بين الآداب الأخرى. ولا بد وأن نعي ونعرف أن نجيب محفوظ كان قد تأثر بالكاتب الإنجليزي الشهير ولتر سكوت في كتابة تاريخ بلاده حيث ولتر سكوت قد كتب تاريخ بلاده روائيًا وأراد نجيب محفوظ أن يحذو حذوه وبالفعل كتب نجيب محفوظ مسودة كبيرة لموضوعات تاريخية عظيمة أراد أن يدون تاريخ بلده عن طريق الرواية وهو تاريخ فرعوني عريق إلا أنه وعلى الرغم من ذلك لم يكتب من الروايات التاريخية سوى ثلاث روايات وهي عبث الأقدار والتي كانت أول رواية له كتبت عام 1939 ثم كفاح طيبة ورادوبيس، وبعدها تطرق نجيب محفوظ إلى موضوعات شتى من التاريخية والرومانسية إلى الواقعية، وينتقل من عبث البحث في الواقع إلى عبث البحث في الوجود، فقد تناول العديد من القضايا الوجودية مثل الخوف والعجز واليأس كما في رواية السمان والخريف واللص والكلاب، والطريق. لقد حرص نجيب محفوظ على تصوير الواقع المصري بكل دقة، وبكل ما أوتي من قدرة على ذلك، ممسكًا في يده كاميرا دقيقة تستطيع أن تلتقط تفاصيل الأشياء، محاولًا في الوقت ذاته التأكيد على الفكرة التاريخية للأحداث من خلال الوصف والسرد اللذين يمتلك ناصيتهما جيدًا، ونلاحظ أن نجيب محفوظ وإن استدعى جزئية من جزئيات التاريخ، فإنه يأتي بها من أجل بث قيمة معاصرة وهي الصراع من أجل الحرية، وهو في طريقه إلى ذلك لا ينسى أن يُخضع ذلك التاريخ للفن الروائي الذي جعله يسهل قراءة التاريخ حين أدخل عليه عنصري الزمان والمكان، فضلًا عن الحدث والعقدة والشخصيات الرئيسية والثانوية. وهذا الأمر نراه بوضوح أكثر في رواياته التاريخية الأولى.

وتاريخيًا يصور تلك الأحداث التي مرت بها مصر قبل وبعد ثورة 1952وهو ما رأيناه في رواية " السمان والخريف " والتي كتبت عام 1962، وهي من الروايات الواقعية التي انتقل فيها من الواقعية الطبيعية إلى الواقعية الوجودية، حيث سار فيها نجيب محفوظ على منوال الرواية الواقعية التي تصور الواقع الذي عاشه المصريون في تلك الحقبة التاريخية كما كان الحال في القاهرة الجديدة وخان الخليلي وزقاق المدق والسراب وبداية ونهاية فضلًا عن رواية الطريق التي بحث فيها البطل صابر السيد الرحيمي عن المخلص ولكنه لم يجده وكأنه يناشد الله فهي أزمة من أزمات الوجودي؛ ذلك الرجل الذي يبحث في حياته عن مجهول بعيد المنال يبدو في نهاية الطريق. إنه يبحث عن حياة فيها الإنسان ما زال إنسانًا، عن ضوء نور ينير له دروب حياته المظلمة، بل والمعتمة من الظلمة الحالكة، إنه يبحث عن والده الذي ينكره حتى في المنام. إنه القلق الوجودي بكل أشكاله، والكينونة البشرية التي يراد لها أن تظل في بحث دائم عن كرامة قد ضاعت وحرية سلبت وعدل أصبح مفتقدًا وسلام بعيد المنال.

أما المرحلة الرابعة هي مرحلة ما بعد نجيب محفوظ التي نحياها الآن والتي تعتبر امتدادًا له ولفكره لأنه هو من أرسى قواعد الفن الروائي حتى نلاحظ أن معظم الروايات لا يوجد لها مقدمات والسبب أن قواعد هذا الفن كانت قد أرسيت وقد عرفت وعرفها الجميع، فلا حاجة للتنظير الأمر الذي جعل مقولة "زمن الرواية" قوية، وهو الأمر الذي بات واضحًا حين تفجرت ثورة يناير 2011 من كل حدب وصوب وجاء الكتاب كي يعبروا عنها إلا إنهم لم يستطيعوا التعبير عنها لأن منجزاتها لم تتحقق بعد وما وجدناه من كتابات هنا وهناك ما هي إلا بذور قليلة من أعمال ننتظر ظهورها. فثورة يناير أكبر من أي عمل روائي حتى الآن وما عبر عنه عمار على حسن في " سقوط الصمت " ما هو إلا جزء يسير من تضحيات عظيمة حدثت في هذه الثورة العظيمة التي راح فيها زينة شباب مصر الأبرار الذين طالبوا بالحرية المفتقدة والعدل الضائع، ورغيف العيش الذي مات الكثيرون من أجله، وإذا كان عمار على حسن قد صور واقع الثورة والذين قفزوا عليها بهذه الصورة الواضحة فإن هناك بعض الكتاب قد صوروا هذا الواقع وما تلا الثورة بطريقة عجائبية غرائبية وهو الكاتب منتصر أمين في روايته " يحيى وصحف أخرى " فهذه الرواية تغوص داخل أعماق النفس البشرية لتبحث في عوالمها وتنقب عن مكنونها وعن اختياراتها الصعبة لتكشف لنا الجوانب الخفية في تلك النفس في زمن غير معلوم ومع أشخاص مهزومين في معظم الأحوال ونراهم دائمًا بين بين لا هم بالأشرار أو بالأخيار وكأننا في تيه من الأمر حيث اختلط الصالح بالطالح فأصبحت شخصياته مهزومة وتائهة، تعيش مع هياماتها، وقد عدد الكاتب الأصوات في الرواية واتخذ شكل السرد المباشر ليحكي هو عن كل شخصية من الشخصيات ويعطي رأيه أحيانًا بداية من الإهداء ومرورًا بالعمل حتى أنهى الرواية، يذكرنا الكاتب في هذه الرواية بالكتابة الأسطورية وكأننا في عالم عجائبي وغرائبي و نراه يعرض لحوادث التاريخ المشهورة مثل طوفان نوح عليه السلام، وهو ما يمثل ثورة يناير العظيمة وعزف الكاتب فيها على الشباب الذين لم يحصلوا على شيء منها وعادوا بخفي حنين واستولى عليها من استولى من اللصوص والانتهازيين الذين هم موجودون في كل زمان ومكان. ولا ننسى الشرارة الأولى التي أيقظت الشعوب من ثباتها إنها الثورة التونسية وجاء الأدب معبرًا عنها أو منذرًا بحدوث تلك الثورة وهو ما عبر عنه الكاتب التونسي شكري المبخوت في روايته " الطلياني" وكان الوطن في هذه الرواية هو اللغة العربية التي تعرَّت عن المحرمات لتصف الجسد والعشق والثورة والهياج الوطني مع عبدالناصر الطلياني اليساري في الجامعة ومحبوبته زينة، حيث تحكي الرواية قصتهما معًا فعبدالناصر هو ذلك الفتى الوسيم وسمي بالإيطالي لوسامته وهي تلك الفتاة الثائرة، التي عشقت فكر الحبيب بورقيبة الباحث عن الحرية والذي أعطى النساء حقوقًا أكثر من الرجال، جاءت تلك الفتاة من الجنوب متأثرة بذلك الفكر الثوري، فأصبحت الرواية تسرد مرحلة فاصلة في تاريخ تونس وهي المرحلة التي تلت الحبيب بورقيبة وصولًا إلى إنقلاب بن علي، وهو ما وصفه الكاتب حين حدث الانقلاب شبهه بانقلاب العاهرات وكانت شخصية نجلاء هي المحور في ذلك فقد كانت تعشق عبدالناصر البطل وقت أن كان متزوجًا من صديقتها زينة والغريب أنها تتركه لتصبح عاهرة في الوقت الذي يأتي فيه بن علي للحكم. وقد تناول الكاتب في هذا العمل الخالي من الخيال طموحات جيل كامل نازعته طموحات وانتكاسات ما بين صراع الإسلاميين واليساريين، علمًا بأن فكرة الرواية قد استلهمها الكاتب من ثورات الربيع العربي والتي بدأت ببلده تونس وظلت مشتعلة حتى الآن، والرواية من الوجهة الفنية هي رحلة في عالم الجسد والثورة والانتهاك والانتهاز وكانت لغتها لغة مدهشة صورت المشاهد تصويرًا رائقًا.

لحظة اغتصاب زينة في رواية " الطلياني " هي اغتصاب للوطن فالوطن لم يدر من يخطط لإسقاطه، كما الحال عند زينة لم تدر من فعلها معها وهي في ظلام الليل" أحست ليلتها أو فجرها أو قبيل الفجر بسكين من لحم يخترقها من الخلف متجها نحو الدبر مرة والقبل مرة أخرى. كانت السكين ينزلق بفعل الزيت الذي دهنت به أو بفعل ماء آخر سال من السكين أو بفعل الدم الذي نزف منها ووجدته على ملابسها وفوق الحصير حين استفاقت. لم تصدق. أرادت أن تلتفت، أن تصرخ، أن تبتعد بجسمها ولكن السكين كان صلبًا قاطعًا يتحرك داخلها كالمنشار. يد على فمها تكتم أنفاسها تمنعها من الصراخ والأخرى تلصق رأسها بالحائط حتى تشل حركتها".

قد يكون هذا المشهد أو المقطع السردي من أصعب مشاهد العمل على القارئ المتعاطف مع زينة/ مع الوطن؛ حيث كانت الصاعقة الشديدة على تلك الفتاة الضعيفة والتي لم تستطع الصراخ أو الاستغاثة، ولم تدر من فعلها معها لأنه هرب ولم يمكنها من التعرف عليه، أفاقت على ذعر مشلولة حركتها كحال الوطن حين يموج بالأفكار الهدامة التي تهدم ولا تبني، فيغتصب من أقرب الناس إليه يقول الكاتب :" فهمت أن أمرًا معيبًا حدث. يا للفضيحة! هل تصرخ؟ و من وراءها، من صاحب السكين؟ أبوها؟ أخوها؟ شخص آخر. لكن الرائحة تعرفها، رائحة السنابل والتراب. مزقها الألم. أصبحت كالبكماء أحست بدمع حار يسيل على خديها، غابت عن الوعي من شدة الصدمة. لم تصدق. أكابوس هو أم حلم يقظة؟ "

نلاحظ أنها تعرف الرائحة فالمغتصب تعرفه، تعرف هويته ولكنه أحيانًا يختبئ وراء الحائط حتى لا يراه أحد يعمل دائمًا في الظلام مثل حال اللصوص وسارقي الأوطان، أفقدها أغلى ما تملك مثل أولئك الانتهازيين الذين أرادوا السطو على الوطن واقتلاعه من جذوره إنهم الخونة الذين يعملون لصالح الغير وهم موجودون في كل مكان وزمان. يقول الكاتب :" زهرة خسرت بعض بتلاتها ويضوع منها الوجع والقهرو.." ما هذه السوداوية لقد انتهى كل شيء لا بد من الانطلاق من جديد معي.. معًا" . وكانت مواساة عبدالناصر لزينة مثل من يريد لوطنه النهوض ويحاول بقدر المستطاع أن يساعده خاصة في تلك الأزمة الخانقة، ويحدث حوار وكأنه بين الوطن والمخلصين للوطن، تقول له زينة :" هذا من باب الشفقة... على البروليتاريا الجنسية". " من أين تأتين بهذه الأوهام. لا احتقار ولا شفقة. أنا أحبك، والحب سخاء وعطاء .. علينا أنتِ وأنا، أن نعيد كتابة تاريخ جسدينا.. سنكتبه معًا بإرادتنا، بقوتنا الروحية.. أنت قوية يا زينة، صمدت وأرى الأفق واسعًا ممتدًا".

من هنا فإن الرواية العربية في المرحلة الرابعة أصبحت أكثر قربًا من الحياة ومعبرة عنها بكل أطيافها وكذا الأحداث العضال التي تعيشها الأوطان بطريقة أدبية رهيفة وأصبحت الرواية هي الديوان المعبر عن الآمال والآلام، فكان حقًا علينا أن نحكم .. وللحديث بقية.