الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. قاسم المحبشي يكتب: حينما تحلق أم الُدنيا في الفضاء العالي

صدى البلد

ربما كانت مصر هي الدولة العربية الأوسطية الكبيرة التي تحلق بجناحين أفريقي وآسيوي إذ تقع في الركن الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا، ولديها امتداد آسيوي، حيث تقع شبه جزيرة سيناء داخل قارة آسيا فهي دولة عابرة للقارات، تقع على مدار السرطان وتمر بين خطيّ عرض 22° و 36' 31° شمالًا، وبين خطي طول 24° و 37° شرقي خط جرينتش.[1] ويحد جمهورية مصر العربية من الشمال البحر المتوسط بساحل يبلغ طوله 995 كم، ويحدها شرقا البحر الأحمر بساحل يبلغ طوله 1941 كم، ويحدها في الشمال الشرقي منطقة فلسطين (إسرائيل وقطاع غزة) بطول 265 كم، ويحدها من الغرب ليبيا على امتداد خط بطول 1115 كم، كما يحدها جنوبا السودان بطول 1280 كم. تبلغ مساحة جمهورية مصر العربية حوالي 1.002.000 كيلومتر مربع [2] والمساحة المأهولة تبلغ 78990كم2 بنسبة 7.8 % من المساحة الكلية. إنها عبقرية المكان وذاكرة الزمان. والجغرافيا تحضر بطرق شتى لكن التاريخ هو ذاكرة المكان والزمان. وفِي مصر فقط يمكن رؤية ذلك العناق الخالد بين افريقيا وآسيا والأطلسي بين المكان والزمان، بين الجغرافيا والتاريخ، بين الناس والوطن بين الخاص والعام.

هنا الدولة العربية الأكبر سكان قرابة ١٢٠ مليون نسمة تنمو وتزدهر وتسير بثبات صوب المستقبل رغم الحصار الشديد الذي يطوقها من كل حب وصوب. أنها أم الدنيا التي مابرحت تعانق السماء وتتطلع الى الفضاء منذ أقدم العصور. فحينما كانت شعوب الدنيا تعبد الأصنام والأوثان الحجرية والتمرية والأشجار والحيوانات الطوطمية كانت أم الدنيا تتطلع الى الاعلى حيث كانت الآلهة التي تؤمن بها تقع فوق فلك القمر ؛ السماء - آلهة الشمس - آلهة الزرع - الآلهة الحيوانية. وحينما كان أهل الأرض قاطبة يحفرون الترب لدفن موتاهم وملوكهم كانت مصر الفرعونية تشيد الاهرامات العالية قبورا للملوك والملكات. وفي القاهرة أكبر العواصم العربية مساحة واكثفها سكانيا على مستوى العالم كله يمكن مشاهدة ثقافة الهمة العالية الراسخة في وجدان المجتمع المصري شاخصة في فنها المعماري الزاخر بالبروج الشاهقة. وفي مصر لا بغيرها شيّد السد العالي. وهكذا 

دائما يبدأ الفن لا من اللحم والدم ولا من العقل والوجدان، بل من المكان، والزمان من الفضاءات الحميمة التي تحتضن الكائن؛ المنزل، الشارع، الحي، البلدة، المدينة، الأرض، السماء، المناخ الليالي الأيام، النجوم الغيوم، المطر، الشمس، القمر، الشجر، البحر، الموج ، النهر، الجداول الرمال، الجبال، الوديان، الحيوان، الأنوار، الظلال، الأشكال والألوان، الغناء، الرقص، النحت، الرسم، الأزياء، الألعاب، العصافير، الأعشاش، الافراح، الاتراح، الألآم والآمال والأحلام. الخ وكل تلك الأشياء الصغيرة الحميمة المؤطرة في السياق الحي الفوري المباشر لكينونة الكائن التي يعيشها متدفقة لحظة بلحظة من حياته. تلك الاشياء الصغيرة بتفاصيلها الحميمة التي تظل عصية عن النسيان هي التي يستلهمها الإنسان، المفكر، الفنان، ويعيد صيغتها إبداعيًا ( فكرة، أغنية أو قصيدة أو قصة أو رواية أو لوحة تشكيلة فنية جميلة أو سيرة ذاتية أو رؤية فلسفية أو هرم أو برج أو عمارة .الخ) أنها أغنية الأرض المنتزعة من أرضها رمزيًا بما تحمله من رسالة جمالية ذات دلالات ومعاني سيكولوجية وميتافيزيقية واجتماعية ثقافية وجمالية إنسانية سامية تهذب الأذواق والنفوس، والفنان لا يأتي المعجزات؛ بل هو ابن بيئته وربيب زمانه. وتمنحه موهبته المرهفة القدرة على إعادة صياغة الحياة في قالب فني يسر النظر، ويطرب السمع، ويبعث الشعور بالمتعة والفرح والجمال.

من تلك العقيدة الثاوية في قلب أم الدنيا، العقيدة؛ المتمثلة برغبة العلو والتجاوز والصعود إلى السماء يمكن لنا فهم الدلالات الرمزية لعملية إطلاق مصر للقمر الصناعي "طيبة-1" الذي يعد الأول الذي تطلقه البلاد في مجال الاتصالات. ومن قاعدة في جزيرة غويانا الفرنسية، انطلق الصاروخ التابع لشركة آريان سبيس الأوروبية حاملا القمر الصناعي المصري صوب الموقع المدارى 35.5 درجة شرقا.ومن المفترض أن يظل "طيبة-1"، الذي أنتجته شركتا إيرباص وتاليس ألينا سبي.ذلك الإطلاق المصري الناجح للقمر الصناعي الذي احتفاء به كل المصريين والعرب المحبين لمصر بفرح غامر. إذ لمست ذلك بنفسي عند الرأي العام المصري.

وأنا اتابع اخبار إطلاق القمر الصناعي المطري طيبة 1 تداعت الى ذهني عبارة كتبها الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر عام 1960 قائلًا «في بداية عام 1959 أعلن رئيس مجلس الوزراء السوفياتي «خوروتشوف» مفتخرًا بأول مركبة إنسانية تغزو الفضاء قائلًا (نحن السوفييت الأوائل في العالم الذين استطعنا أن نخط في السماء انطلاقا من الأرض وصولًا إلى القمر مدارًا من نار)! ويعلق هيدجر على تبجح «خوروتشوف» الذي لا أحد يستطيع أن يدحضه بالقول: قبل كل شيء يجب علينا أن نزن محتوى تصريح خورتشوف؛ «إذ من المؤكد أنه نفسه لم يفكر بمعنى ما قاله؛ ذلك لأنه لم يعد من وجود للأرض ولا للسماء بمعنى السكن الشاعري للإنسان على هذه الأرض، فالمأثرة التي أنجزتها المركبة الفضائية الروسية هي التجسيم الفعلي لما هو كائن منذ ثلاثة قرون، و قد طرح ورتب وانبسط على أنه العالم «الطبيعة» الأرض والبحر والسماء كمجال حيوي وفضاء مفتوح لنشاط الإنسان المعاصر.

ويضيف: إن مدار المركبات الفضائية يدفع بعنف الأرض والسماء إلى لجة النسيان، فلم يعد هناك لا أرض ولا سماء، بل عالم إنساني واحد وكون لا محدود ولا نهائي، ولا يوجد سوى قلة من الناس لا حول لهم ولا قوة، ما زالوا يعتقدون أن التغير الذي طرأ على العالم من خلال غزو الفضاء ليس في حقيقة أمره إلاَّ امتدادًا طبيعيًا للثورة العلمية والتقنية الأوروبية التي بدأت مسيرتها في القرن الخامس عشر الميلادي»، بهذا النص الفلسفي العميق، استطاع الفيلسوف هيدجر تلخيص الموقف كله، وهنا تكمن أهمية الفلسفة ونفاذ بصيرتها فيما يتعلق بالمشكلات الكلية والأسئلة الكبرى في العالم. وفي السياق ذاته تذكرت ما كتبه الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار في كتابه المهم( الوضع ما بعد الحداثة تقرير عن المعرفة ) إذ أشار الى أن الصراع اليوم لم يعد صراعا على الأرض والثروة المادية الفجة كما كان في الأزمنة القديمة بل هو صراع على المعرفة وامتلاكها بوصفها قوة السيطرة والتحكم في عصر العلم والثورة العلمية والفضاء هو ساحة معركتها الجديدة فمن يسيطر على الفضاء سيطر على الأرض. هذا هو المعنى الذي سطر بالذاكرة منذ عشرين عام حينما قرأته

وإذا أردنا تأطير هذا الإنجاز المصري العربي الكبير في إطار الرؤية الكلية للعالم فيمكننا القول: أن صعود مصر إلى الفضاء ليس وليد اللحظة بل هو راسخ الجذور في عقيدتها وثقافتها التواقة للعلو والتسامي منذ أقدم العصور. والأهرامات الشاهقة اثارا شاهدة عن هذا التوق للسماء والنجوم. 

كم أسعدني هذا الخبر بإطلاق القمر الصناعي المصري طيبة1 وبعث في نفسي الأمل بان هنا في بلاد العرب وفي قلبها النابض ممكنات وقدرات جديرة بالقيمة والأهمية والاعتبار، وحينما تحلق أرض الكنانة في الفضاء فهذه له الف معنى ومعنى. الف مبارك لمصر وشعبها وقيادتها السياسة هذا الإنجاز التكنولوجي الفلكي العملاق على طريق المستقبل المشرق. تحيا مصر .. تحيا مصر.. تحيا مصر💐