الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

خالد الشناوي يكتب: تجليات الصوفية (٤)

صدى البلد

بعد أن تناولنا في مقالاتنا السابقة فلسفة الصوفية في تجلياتهم الوجدانية ..
عرفنا كيف ينظر هؤلاء القوم إلى العالم من منظار فريد كان سببا رئيسيا في تميزهم عن غيرهم ..
إنهم بالفعل يرون الحب قانونا كبيرا حاكما في هذا الوجود؛ وسببا من أسباب ميلاد هذا الكون الكبير ونسيجا تشف به الحياة على رحابتها وجلالها.
فهم يرون أن الله قد خلقنا ليتفضل علينا بحبه، ويتفضل علينا مرة أخرى بأن يسمح لنا بهذا الحب.

يقول الشبلي رحمه الله:"علي بعدك لا يصبر من عادته القرب؛ولا يقوي علي هجرك من تيمه الحب؛فإن لم تركَ العين فقد يبصرك القلب'.
_ برز موضوع الحب الإلهي بصورة جديدة عند صوفي تميّز عن غيره من الصّوفية السابقين عليه هو عمر بن الفارض(٥٧٧ –٦٣٢هجريّة)  الذي عبّر عن حبّه لربّه عن طريق الشعر وهو ما يسمى في لغة القوم بالمواجيد.

وكان هو الصّوفي العربي الوحيد الّذي انطلقت روحه جيّاشة بالتعبير عن الحب الإلهي من خلال النظم شعرًا وترك لنا ديوانًا من الشعر يتنقّل من يقرأه بين الصور الجماليّة الرّائعة للحب الإلهي في أجلى صوره؛وأطلق عليه لقب ” سلطان العاشقين ”ويصفه أبو العلا عفيفي بأنّه ” أحد أقطاب العاشقين وأعظم شاعر صوفي في اللغة العربيّة على الإطلاق ”.

 فقد  أمضى حياته يعبد الله ويتقرّب إليه من خلال قصائده التي بثّ فيها صور الحب الإلهي ، فقد تغنّى في كل ماهو جميل في هذا الكون؛واتّخذ حبه بالنظر إلى جمال الكون من حوله ليعبّر من خلال عالم الحس المادي؛ومنه إلى عالم الخلود؛حيث يتجلى الله في هذا العالم من خلال معجزات الوجود التي تحيط بالإنسان.

 وكي يحب الإنسان الله يتوجّب عليه أن يتحرّر من سلطة المادة التي تحاصر الإنسان من كل جانب ، وفكّ الحصار هذا يوجب على الصّوفي أن ينطلق في آفاق الكون باحثًا عن سرّ الوجود ، وهذا بدوره لن يصل إليه الإنسان إلاّ إذا تحرّر بروحه من سلطة البدن ومن عالم المادة بما فيها من رغبات وشهوات.

 وهذا لايتم إلاّ بتحرير الروح من سطوة الجسد ” وتصفية النفس وتنقية القلب وجلاء عين البصيرة لتستحيل حياة الإنسان في هذه الدنيا إلى حياة روحيّة خالصة ، تستعيد فيها روحه روحانيّتها الأولى وتستشعر حبها القديم الذى منحته قبل أن تهبط من عالمها العلوي وتتصل ببارئها ”.
 وإذا تمكن الإنسان أن يصل إلى هذه المرحلة ، فإنه يمكن القول أن الإنسان قد أصبح قريبًا من الله ، بل قد فني في الله ، لأن الذي يحب الله لايعود له أدنى اهتمام بوجوده الذاتي بل هو يستمدّ وجوده من الله ، وقد نظر إلى المحبّة الإلهية باعتبارها فناء المحب عن نفسه وبقاءه بالله وحده.
 وقد وصل ابن الفارض إلى مرحلة رأى نفسه فيها إمام العاشقين ومرجهعم الأوّل في كل مايتعلق بالحب الإلهي ويدعو الناس إلى اتباع خطواته للوصول إلى مرحلة متقدمة في حب الله وكسب معرفته لأنّه وصل إلى الطريق التي تقوده إلى معرفة الله أكثر من غيره فنراه يقول:
  زدني بفرط الحب فيك تحيّرًا        
 وارحم حشى بلظى هواك تسعّرا
 وإذا سألتك أن أراك حقيقةً                فاسمح ولاتجعل جوابي لن ترى ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا         
 سرّ ارق ّمن النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أمّلتها                فغدوت معروفًاوكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله              وغدا لسان الحال عنّي مخبرا 
 _ويبدو أن هذه الحال التي وصل إليها ابن الفرض قد جعلته يشعر بالتفوّق على السابقين والمعاصرين من الصوفية ، لأن ماحصل عليه من الله لم يحصل عليه أحد غيره ، فيقول مخاطبًا إيّاهم:
 قل للّذين تقدّموا قبلي ومن                بعدي ومن أضحى لأشجاني يرى
 عنّي خذوا وبي اقتدوا ولي اسمعوا    
 وتحدّثوا بصبابتي بين الورى .
فهو المتقدّم على الجميع في مجال الحب الإلهى لدرجة أنّه يطلب من الآخرين أن لايبحثوا عن أسرار الصوفيّة إلا من خلاله ، فهو الوحيد الذي يستحق أن يسمع ، وأن يكون القدوة لغيره ، ولولا استغراقه في الحب الإلهي لما وصل إلى هذه الحالة من الحب الخالص لله ، ويضيف قائلًا :
كُلُّ مَن في حِماكَ يَهوَاكَ، لكِن
أنا وحدي بِكُلّ من في حِماكا
فيكَ مَعْنُى حَلاكَ في عَينِ عَقْلي،
أُلفِهِ، نحوَ باطِني، ألقاكا
فقتَ أهلَ الجمالِ حسنًا وحسنى
فبِهِمْ فاقة ٌ إلى مَعناكا
يحشرُ العاشقونَ تحتَ لوائي
وجميعُ المِلاحِ تحتَ لِواكا
(البقية الحلقة القادمة