الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حكايات من زمن فات.. قصة الغرفة رقم 8 راصدة اللحظات الأخيرة في حياة أمل دنقل

صدى البلد

في الغرقة رقم 8 بالدور السابع في المعهد القومي للأورام في القاهرة، رقد الشاعر الكبير أمل دنقل الذي تحل اليوم ذكرى ميلاده، قرابة عام ونصف من فبراير 1982م إلى رحيله في مايو 1983م، إذ أنه كا يعالج وقتها من مرض السرطان، الذي كان ينهش في جسمه وعظامه منذ أوائل سبتمبر 1979م.

وكما كان أمل دنقل ابن صعيد مصر قويًا وصلبًا في مواقفه القومية، كان قويًا وصلبًا في مواجهة المرض، كان المرض ينهش فيه وهو يفتش في أخاديع الوجع عن عرائس الشعر "الفرح المُختَلس"، وظل محاربًا للمضر بين جدرات تلك الغرفة، ومتشبثًا بشعره وهو على أعتاب الموت، إلا أن رحل عن عالمنًا في 21 مايو 1983، تاركًا خفه مجموعة من الأوراق التي سجل فيها العديد من القصائد التي كتبها خلال عزلته بالمستشفى، والتي صدرت بعد رحيله في ديوان بعنوان "أوراق الغرفة 8" هو الديوان الأخير لأمل دنقل.

 
ويضم هذا الديوان، الذي نشرته زوجته، الكاتبة والصحفية عبلة الرويني، بعد أربعين يومًا من وفاته، القصائد الأخيرة التي كتبها أمل دنقل طوال فترة مرضه، وتحديدًا في هذه الغرفة، فقد ظل أمل يكتب الشعر وهو على سرير المرض فيها، على علب الثقاب وهوامش الجرائد، ولم يهمل الشعر لحظة حتى آخر أيامه.

والقصائد، التي كانت ثمار الصراع مع المرض بين جدران الغرفة 8، شملت: زهور (مايو1982م)، ضد من (مايو 1982م)، لعبة النهاية (يونيو 1982م)، السرير (نوفمبر 1982م)، ثم الجنوبي (فبراير 1983م)، بينما القصائد الثلاث: "إلى محمود حسن اسماعيل في ذكراه" و"الطيور" و"الخيول"، كتبت جميعًا عام 1981م، ولكنه ظل يعدِّل ويغير في الثانية والثالثة منها حتى استقر على صيغتهما النهائية في أكتوبر وديسمبر 1982م على التوالي، وجميعها كانت في فترة مرضه ما قبل الغرفة 8 .

 وكانت قصيدته "الجنوبي" هي الورقة الأخيرة في أوراق الغرفة 8، وفي رحلة إبداع أمل دنقل، وهي التي بلورت الرؤية الشمولية، وأتمت تأملاته الفلسفية فيما قبلها من قصائد، وبقية قصائد الديوان: ديسمبر "بلا تاريخ"، وبكائية لصقر قريش "بلا تاريخ" و"مقابلة خاصة مع ابن نوح 1976م" و"خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين 1976م"، لا تنتمي لمرحلة مرضه، فهي أقدم عهدًا وقد ضمنتها زوجته الديوان اتساقًا، كما ترى، مع الدلالات الأساسية التي ينظوي عليها الديوان.

وتكتنف قصائد فترة المرض رؤية فلسفية تلتفت إلى البداية المعبقة بروائح الميلاد وتمر بظلال الماضي وأشخاصه، لتعبر نحو أنفاس النهاية المجهدة، حاول الشاعر أن ينسج من الوهن الذي يكابده حياة أخرى، أو يستنطق الحياة في الماضي، وفي الأشياء الساكنة المحيطة به في سياق فلسفي. 

ولد أمل دنقل عام 1940م في أسرة صعيدية بقرية القلعة، مركز قفط على مسافة قريبة من مدينة قنا في صعيد مصر، وقد كان والده عالمًا من علماء الأزهر الشريف مما أثر في شخصية أمل دنقل وقصائده بشكل واضح.

ورث أمل دنقل عن والده موهبة الشعر فقد كان يكتب الشعر العمودي، وأيضًا كان يمتلك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي مما أثر كثيرًا في أمل دنقل وساهم في تكوين اللبنة الأولى لهذا الأديب، فقد أمل دنقل والده وهو في العاشرة من عمره مما أثر عليه كثيرًا واكسبه مسحة من الحزن تجدها في كل أشعاره.

رحل أمل دنقل إلى القاهرة بعد أن أنهى دراسته الثانوية في قنا وفي القاهرة التحق بكلية الآداب ولكنه انقطع عن الدراسة منذ العام الأول لكي يعمل.

عمل أمل دنقل موظفًا بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية ثم بعد ذلك موظفًا في منظمة التضامن الأفروآسيوي، ولكنه كان دائمًا ما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر، كمعظم أهل الصعيد، شعر أمل دنقل بالصدمة عند نزوله إلى القاهرة أول مرة، وأثر هذا عليه كثيرًا في أشعاره ويظهر هذا واضحًا في اشعاره الأولى.

استوحى أمل دنقل قصائده من رموز التراث العربي، وقد كان السائد في هذا الوقت التأثر بالميثولوجيا الغربية عامة واليونانية خاصة، وعاصر امل دنقل عصر أحلام العروبة والثورة المصرية مما ساهم في تشكيل نفسيته وقد صدم ككل المصريين بانكسار مصر في عام 1967 وعبر عن صدمته في رائعته "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" ومجموعته "تعليق على ما حدث ".

شاهد أمل دنقل بعينيه النصر وضياعه وصرخ مع كل من صرخوا ضد معاهدة السلام، ووقتها أطلق رائعته "لا تصالح" والتي عبر فيها عن كل ما جال بخاطر كل المصريين، ونجد أيضًا تأثير تلك المعاهدة وأحداث شهر يناير عام 1977م واضحًا في مجموعته "العهد الآتي".

 كان موقف أمل دنقل من عملية السلام سببًا في اصطدامه في الكثير من المرات بالسلطات المصرية وخاصة ان أشعاره كانت تقال في المظاهرات على ألسن الآلاف.

عبر أمل دنقل عن مصر وصعيدها وناسها، ونجد هذا واضحًا في قصيدته "الجنوبي]" في آخر مجموعة شعرية له "أوراق الغرفة 8"، حيث عرف القارئ العربي شعره من خلال ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" الصادر عام 1969 الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارئ ووجدانه.