الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. هادي التونسي يكتب: مونيكا

صدى البلد

السادسة صباحا والبرد يخترق عظامي في يوم يقال إنه ربيعي في انتظار حافلة تنقل المجموعة السياحية من فيينا؛ لنبيت في شمال إيطاليا بعد أربع عشرة ساعة.

لم أستطع أن أرسم على الوجه ملامح الود، إذ اضطررت إلى أن أقطع ساعات نومي المعتادة قبلها بثلاث ساعات لألتزم بميعاد التلاقي لكن وجهي المقتضب لم يمنع تلك السيدة النحيلة ذات الابتسامة المشرقة من أن تقترب وتبدأ الحديث باسترخاء، كما لو كنا نحتسي قدحا من الشاي الدافئ وسط طبيعة حانية.

تجرجر مونيكا قدميها وكأنها مصابة في دأب إلي الجانب الآخر من الشارع ,لتتأكد أن الحافلة التي وصلت لتوها هي التي ستنقل المجموعة السياحية المتحفزة، ولتقدم نفسها إليهم داخلها بصوت رخيم دافئ من القلب، لا يسعك إن أغلقت عينيك وهي تتحدث إلا أن تتخيل أنها في الأربعين من عمرها، وأنها تتمتع بثقة وقلب صافٍ ومرح دون خفة، مع أن انطباعي المبدئي أنها في السبعين من عمرها.

في ختام ذلك اليوم الذي بدا بلا نهاية وصلنا إلى الفندق في مدينة ناعسة على حافة بحيرة محاطة بأشجار وفنادق فخمة كلاسيكية الطابع، وكأنني تركت عالمنا المضطرب المتعجل إلي مصايف الستينيات الوديعة الأليفة.

برنامج حافل ونشط كل يوم، خلصت بعده إلي أن تجنب الإرهاق في حالة السفر مع المجموعات السياحية لعدة أيام قد يدفعني في المرات القادمة إلي أن أختار رحلات تجمع بين الذهاب والعودة بالطائرة إلي المقصد السياحي الرئيسي وبرنامج يومي بالحافلة لما حوله.

ولكن ها هي مونيكا تجيبني أن عملها يستوجب تكرار رحلات مماثلة تباعا بل إنها أحيانا ما تسافر إلي مقصد رئيسي آخر بالحافلة لعدة أيام تتخللها مرات راحة وإقامة في الطريق بالإضافة للبرنامج اليومي هناك.

كيف تحتفظ مونيكا بتلك الابتسامة الصافية, وذلك الصوت الدافئ, وهذا الحضور الكامل المرحب, وهذا التقبل الهادئ لمقتضيات عملها المرهق؟ أجابتني في مقهي أثناء وقت راحة.

توفي والدها متأثرا بجراحه بعد الحرب العالمية الثانية, وعمرها سنتان, وتولت والدتها الممرضة تربيتها رغم أنها تقتات معاشها من مهنة إضافية تأخذ وقتها, كانت مونيكا نابهة في دراستها, وعملت بعدها في مجال الحاسبات الإلكترونية الذي بدا صاعدا في العقود الأخيرة.

وأخذتها مهام العمل إلي تسويق منتجات الشركة في دول أوروبا الشرقية منذ التسعينيات، وبتكرار تلك الرحلات وجدت اهتمامها يتزايد بالتعرف علي مناحي الحياة في تلك الدول وتاريخها وثقافاتها وتراثها، فأصبحت الشركة تكلفها بالسفر مع وفود فنية كمرشدة سياحية, انطلاقا من خبرتها ومعرفتها باحتياجات السائح النمساوي.

عادت مونيكا إلي كتب التاريخ القابعة في مكتب والدها المدرس, فوجدت فيها هواها وهوايتها, وتذكرت أن معارفها كانوا يمتدحون قدرتها علي التدريس حينما بدأت شركة سياحة نمساوية علمت بخبرتها في هذا المجال بالاتصال بها للعمل كمرشدة سياحية معهم.

ووجدت مونيكا أن مجال الحاسبات طفق يتشبع بمهنيين شباب أسرع إستيعابا لتطوراته,فإجتازت إمتحان الإرشاد السياحي لتعمل به رسميا تاركة وظيفتها الأصلية.

لم يمر الأمر دون تضحيات ,فقد كانت ارتبطت لأعوام طوال برجل يكبرها سنا,ثم أحيل إلي المعاش. ووجد أن مقتضيات عملها تبعدها لأيام كثيرة في رحلات خارج النمسا, ولم تعد العلاقة بالتالي تشبع احتياجات الطرفين العاطفية, فانفصلا في سلام دون أطفال.

كيف تكون الحياة إذن دون أسرة مع تقدم العمر وتراجع الصحة التي قد تدفعها قريبا إلي الكف عن العمل وإلي التقاعد؟ تقول مونيكا أنها تعلمت من مسيرة كفاحها أن تبذل الجهد, وتعتمد علي النفس, وتتكيف بواقعية مع تغيرات الحياة ومتطلباتها, تلك الطبيعة التي تجلب إلي نفسها الإحساس بالأمان والثقة والاكتفاء والاسترخاء, فالسعادة في رأيها حالة ذهنية راضية ومرنة, وحيوية وقادرة ,تجعلها تتطلع إلي ما حولها بعين فاحصة وعقل واعٍ, وإحساس دافق متعايش, فتدرك أعمق وأشمل, وتشعر أقوي وأدق ,فتكون سعادة الآخرين سعادتها, والمهم دروسا لحياتها, تعينها علي تفهم وتقبل حكمة الوجود, وعلي العرفان لما حبتها الدنيا من فرص ونعم أعملتها, فلا وحدة إذا كان الكل داخلك ومعك,و إذا كنت مع الكل بعقلك و قلبك,بضميرك و مشاعرك.