الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د.هادي التونسي يكتب: إستيريا

صدى البلد

فنادق و قصور، عمرها تعدى المائة، تحف معمارية مشيدة بتفنن وإتقان مطلية بدرجات أنيقة من ألوان متباينة وتتدلى من شرفاتها زهور زاهية، بناها أثرياء نمساويون كمصايف امبراطورية على ساحل الأدرياتيكى فيما يعرف الآن بمنطقة استيريا فى كرواتيا. اشتق اسمها من أول شعب سكنها قبل أن تصبح جزءًا من الامبراطورية الرومانية وقبل أن تصلها قبائل السلاف القادمة من بولندا ضمن هجرات شعوب شمال أوروبا إلى بحار الجنوب الدافئة، ثم لتكون لقرون تابعة للبنادقة الإيطاليين، ثم جزءًا من الامبراطورية النمساوية المجرية فإيطاليا ثانية، لتنضم بعد الحرب العالمية الثانية إلى يوغسلافيا السابقة. 


استعمار إيطالى ثم نمساوى يراه الكرواتيون كغيره فَرَض الضرائب واستغل الموارد، ولكنه شيد الطرق والمرافق والمبانى وجلب ثقافة وحضارة دون استعباد، ربما للتقارب الثقافى والعرقى الذى جعل سكان المنطقة  المعاصرين خليطًا من شعوب تلك الامم، والتى مازال  سكانها يعتبرون سياحًا هذه المرة وليسوا غزاة ، هم عشرة ملايين سنويًا، أى ضعف سكان كرواتيا  لتكون سياحة البحار الدافئة والاستجمام فى الطبيعة الجبلية  الخلابة والفنادق الأثرية الصغيرة أهم مصادر الدخل.


المدن صغيرة هادئة تشعرك مبانيها النيوكلاسيكية أنك زرت النمسا ، ومنازلها القوطية المعمار انك فى قرية ايطالية ساحلية  لم يعرف بحارتها نظام ترقيم البيوت فجعلوا لكل منها لونا مختلفا مميزا.  فى المدن الصغيرة فنادق ومحال  ومطاعم ومقاهٍ سياحية وشوارع مشاه تشكل معا لوحات فنية شاعرية أليفة متناسقة  ، لا تجعل لك اختيارا سوى أن تسعى لتكون جزءا من هذا الجمال المتناغم الرصين الهادئ فتستغنى عن كثرة الطعام والشراب  والتسوق وتمارس الاختيار الحر للجودة والاناقة والصحة، فالطبيعة المبهرة تنمي حسك بالجمال وتيسر اتباع اسلوب حياة مسالما صحيا، توحى اليك بالانطلاق والتآلف مع الآخر المبتسم المستمتع المستبشر.


إذا ذهبت الى تلك المصايف فيمكنك أن تقصد الاستشفاء ، سواء كنت تبتعد عن العمل الشاق والمدن المزدحمة  طالبا الاسترخاء ، أو سعيت للتمتع باختلاط هواء الجبال  والبحار المفيد لمرضى القلب والمفاصل . من مدن استريا يمكنك أن تستقل قاربا لزيارة جزر بريونى التى اعلنت محمية طبيعية بعد أن كانت احداها مقرا صيفيا للرئيس اليوغوسلافى الراحل تيتو.


والمنطقة تمثل الجزء الشمالى الغربى لساحل كرواتيا الأدرياتيكى الممتد جنوبا وجزره الألف وسبعمائة، منها سبعون جزيرة مأهولة  ، وكلها مناطق سياحية.. أحسست لوهلة انها بلد محظوظ يعتمد أهله على سياحة أساسها طبيعية وهبها الله ومبانى ومرافق وثقافة وحضارة جلبها غزاة ، تحول أحفادهم الى سياح معاصرين جاءوا سلاما تحسبهم شبابا فوق الستين لاعتنائهم بالقوام والملبس والصحة والنضارة واللياقة ينعشون الاقتصاد ويضيفون موارد ربما استنزفها بعض اجدادهم .  ولكننى فوجئت أننى أعبر نفقا طوله خمسة كيلو مترات  يشق جبلا ، ولايعدو الا أن يكون واحدا من كثير تمتلئ بهم الطرق ، فتجعل السفر مريحا دون انحناءات أو مصاعد أو مهابط ، وتعلمت أن اغلبها أقيم منذ ثمانينات القرن العشرين ضمن خطط يوغوسلافيا لجعل كرواتيا مقصدا سياحيا منتعشا استنادا لما شيدته ايطاليا قبل اقتطاع استيريا عنها ، لكن الاقتصاد فى بلد انضمت للاتحاد الاوربى عام 2011 ليس أكثر من احدى فوائد السياحة ، التى تعلم الكرواتيين  التفتح  والتسامح وتمزج الثقافات والمعارف وتكسب لبلدهم الأصدقاء والسمعة الحسنة، والتى عرف عنها أن اسم رباط العنق  ( الكرافات ) مشتق من كرواتيا بعد أن نقل جنود نابليون عن أهلها استعمال تلك الأربطة الى العالم.


فى آخر ليلة بمدينة أوباتيا  الحالمة وبعد العشاء كنت أعتزم النوم مبكرا قبل سفر صباح اليوم التالى ، ولكننى وكأنى لا أريد أن أرحل وجدت قدمىّ تسوقانى الى تراس الفندق لأجد عازفا يلعب قيثارته ، تدندن معزوفة " ذكريات الحمراء " ذلك القصر الشهير  بالأندلس ، ليحفر بها ذكريات تلك الرحلة الممتعة فى عقلى وقلبى ولأستدعيها كلما سمعت تلك المعزوفة المحببة.