الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مصطفى الشيمى يكتب: قيد الرجوع

صدى البلد

شيء ما في هذا النهار غريب وكأنه يمر من وراء العقل والحس، شيء غريب يظهر أمامه على جنبات الطريق، يتأمل وهو ساند رأسه على كرسيه واضعًا يده على جبينه ممررًا أصابعه بحركة لا إرادية تذهب البأس والوجع، ثم تداعب شعره المجعد، مد ساقيه في استرخاء لذيذ يُسمع منه صوت فرقعه مفاصله، نظر إلى الأعلى وكأنه يشرب الماء من شلال السماء فلم يجد فيها إلا قمرًا وحيدًا يحيطه الظلام وترك روحه تلامس النور من ذلك المشهد المضيء في غاية تمامه، كاد عقلة يهلك عجزًا ويحترق قلبه شوقًا من شهاب يلوح له من وراء ستار الغيب ويروى ظمأة الضال المسافر في دنيا الله.


أدرك مع الوقت أن هذا الطريق لن ينتهى بتلك المعانى التي أخذته بعيدًا، فشعر بهتاف روحه وتيقن أنه في حضرة الحياة فقد اتصلت روحه للمرة الأولى بنبع الحب ومصدر الإلهام وسر جمال الأشياء، فباشر تلك النشوة العائمة والعارمة بين أسرة قلبه، فأصابته برعشة روحية تلامس أسرارة السارية في كل أنحاء جسده المنهك والمتوقف عن العمل، فقد ارتحل إلى ما كان يبحث عنه طول الوقت وهى معه دون أن يدرى، يبحث عن العاشق الهائم خلال العمر.


في سواد عينيها واحمرار خدودها كالورد الطازج، بين ضلوعه، في أنفاسه وتناهيد صدره، أقرب إليه من حبل وريده، أقرب إلى عينيه من سوادهما، أقرب إلى لسانه من الحروف، أقرب من الروح للجسد، ظل يتفقد الطريق بحثًا عنها بين الحارات والأرصفة يسرع يظن أنها تتخفى في السيارات أمامه، ولكنه فجأة وجدها بجانبه جالسة ومتكئة تلامس كف يده لتشاركه التحكم وتوثق الاتصال به في دمه وشرايينه وكأن مجاورتها عبادة تسجد فيها الجوارح ويعم الصمت في حرمها لتهتف النفس بكامل الأدعية والتدرع دون أن تمل أو تكل، وتتناثر كحبات الماس على وجهه وساقيه في هدوء وشفافية وطمأنينة تخمد نيران الشوق، فليس لديه مبرر أن ييأس حتى لو طال الطريق المستحيل إلى أسراره وخفاياه الداخلية.


فلم يكن هو الرجل الوحيد الذى يعيش في غرفة واسعة بسريرين ينام نصف الليل على سرير والنصف الآخر على السرير الثانى، ومع الوقت بدأ يكتشف أنه ليس الوحيد الذى يكلم روحه، فهناك بشر كثيرون يحدثون أنفسهم في الطرقات وفى البيوت حتى وإن كان الصوت لا يسمعه سواهم.


ولكنه أدرك أنه أفرط كثيرًا في عزلته ووحدته حتى أصبح شخصية جذابة ولافتة للنظر، وأصبح الجميع ينتظر نزوله صباحًا بكامل أناقته في نظره عابرة، كان يعيش على أعصابه دائمًا يحلم، يسهر، يفرح، يحزن، يثور، في حروب دائمة كلما وضع جبينه آخر الليل على فراشه، يتخيل أشياءً كثيرة، كثيرة جدًا، لا معنى لها أو مبرر للخوف منها.


ظل يقود مسرعًا بتحكم قابض يديه على عجلة القيادة دون أن يحافظ على المسافة بين العربات أثناء السير للوقاية من الصدمات المهلكة وهو مؤمن جيدًا بتلك الإشارات الروحية التي تجلبها الحروف على ظهر العربات، والحكم المكتوبة على الشاحنات العملاقة، فتكون إشارة مدهشة له من حيث المضمون والتوقيت، ينظر وينتظر في شغف لما قد يحدث بعد تلك اللحظات التي عاشها بخياله ولامست روحه، وكانت تراوده الرغبة في أن يصحو يوما من هذا الموت، وأن يفعل شيئا أي شيء يدل على أنه لا يزال حيا ولما لا وأبواب السيارة مفتوحة فلا داعي أن يكسر الزجاج، وأنه ليس وحده  الغارق فى همومه ولم تستهدفه الدنيا هو بالذات بهذه الضريبة، ويظل قيد الرجوع وإن كان الطريق غير ممهد ولا تطأ قدماه الحرير.