الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. رأفت محمود يكتب: مشاهد من داخل إثيوبيا

صدى البلد

المكون القومي والثقافي والديني لإثيوبيا يمثل نموذجا قويا لإشكالية الاندماج القومي في إفريقيا جنوب الصحراء، لما تمثله من مثال يضم تنوعا في الديانات والقوميات واللغات والثقافات والتي جرت محاولات عدة لصهر الجميع في بوتقة واحدة كان الجامع فيها هو وجود حاكم قوى أكثر منها رغبة فعلية في الانصهار أو التوافق على تكوين كيان تتشارك فيه القوميات الإثيوبية في إدارة الدولة الإثيوبية. 


وهو ما يستدعي التعرف على تكوين النظام السياسي الإثيوبي الحالي، حيث تنقسم إثيوبيا إداريا إلى تسعة أقاليم هي: أوروميا، أمهرة، تيجراي، عفر، هرر، الإقليم الجنوبي، بني شنقول جوميز، جامبيلا، والإقليم الصومالي، ولكل من التسعة أقاليم حكومتها الخاصة وعلمها الخاص.
تضم الولايات الإثيوبية قوميات مختلفة تبلغ حوالي 80 قومية لكل منهم عاداتها وتقاليدها الخاصة ولغتها المحلية، وتشكل قومية الأورومو حوالي 40% من المكون الإثيوبي وقومية الأمهرة تمثل ثاني أكبر مجموعة عرقية في اثيوبيا بنحو 25% والتي تتحدث اللغة الأمهرية وهي اللغة الرسمية للجمهورية الاثيوبية، بينما التغراى تشكل نحو 6.1% من الشعب الإثيوبي، ثم الصوماليون الذين يشكلون أيضًا نحو 6.1% من تعداد الشعب الإثيوبي وهم يتركزون في منطقة أوجادين، بالإضافة إلى قوميات أخرى.


هذا التقسيم القومي والثقافي لم يجد ما يصهره في بوتقة واحدة طوال التاريخ الحديث الإثيوبي تراعى مصالح تلك القوميات ويعلي من الدولة القومية الجامعة.


حاليًا تشهد إثيوبيا احتقانًا سياسيًّا تحول إلى اشتباك عسكري غير مسبوق بين الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم التيغراي. الخلاف بين الطرفين ليس وليد اللحظة، ولكنه تفاقَم أكثر مؤخرًا على خلفية قيام حكومة إقليم تيغراي بإقامة انتخابات داخل الإقليم بالمخالفة لقرار الحكومة المركزية بتأجيل الانتخابات الفيدرالية بسبب جائحة كورونا والتي رأت حكومة التيغراي أنها تستهدف الهروب من الاستحقاق الانتخابي وتطويل فترة بقاء آبى أحمد في السلطة والذي تناصبه العداء قومية التيغراي.


فمنذ أن ابتعدت القومية عن السلطة والتي سيطرت عليها منذ عام 1991 على الرغم من كونها تمثل فقط حوالي 6.1% من الشعب الإثيوبي، وهي تحاول الحفاظ على مكتسباتها ومواجهة سياسات اتخذت لتحجيم سطوتها السياسية والاقتصادية.


فحدثت تغيرات في الأجهزة الأمنية شملت قادة أركان الجيش والأمن والمخابرات ترى القومية أنها تستهدف منسبيها، وكذلك تخفيض تمثيل القومية في القيادات المركزية للجيش الإثيوبي والتربص بها في الأجهزة التنفيذية بل اتهامها بأنها وراء أحداث عنف تحدث في إثيوبيا.


تبع ذلك سياسات من جانب القومية للحفاظ على مكتسباتها خاصة إنها تملك الكثير من الخبرات سواء الأمنية أو العسكرية أو القدرات الاقتصادية، فهى تتميز بتوليها حكم إثيوبيا فترة كبيرة مكنتها من دعم موقفها تجاه القوميات الأخرى سواء في الاقتصاد الإثيوبي أو تدريب منتسبيها على الخبرات العسكرية المختلفة، بالإضافة إلى أن مجاورتها لإريتريا جعل منتسبيها يتحملون عبء الدفاع عن إثيوبيا خلال فترة الحرب الإثيوبية الإريترية، مما مكنها من تكوين قوات شبه نظامية تملك معدات تعادل حجم جيوش دول إفريقية أخرى، وهو ما مكنها من اتخاذ سياسات تواجه بها الحكومة المركزية، ولن ترضخ بسهولة لسياسات آبي أحمد بتهميشها أو الانتقاص من مكتسباتها في  ظل أجواء عدائية بين القوميات في الداخل الإثيوبي جعل كل قومية تتمرس وتحاول الحصول على أكبر  ممكن من المكاسب لتواجه به القوميات الأخرى.


هذا عن الصراع في الداخل الإثيوبي والذي تشير دلالاته إلى أن لحظة الانصهار والعمل تحت علم واحد وضحت حقيقتها وإنها مازالت بعيدة عن إثيوبيا، تلك الدولة التي كانت مؤشراتها الاقتصادية وطموح قياداتها يشير إلى بزوغ دولة قوية إقليمية لها داعموها من قوى مختلفة غربية بالأساس.


فالحقيقة التي يعرفها الجميع أن الانتخابات التي تجرى في إثيوبيا وإن أطلق عليها انتخابات ديموقراطية إلا أن خريطة الأحزاب السياسية في إثيوبيا تكونت على أساس قومي مثل منظمة عموم شعب الأمهرا، والحزب الديمقراطي للصومال الغربي، حزب تحرير عفر، حزب الاتحاد الإثيوبي الديمقراطي ويضم تنظيمات أمهرية وتجرينية. 


ومحاولة انشاء حزب حاكم أطلق عليه الازدهار والذي يدعو له رئيس الوزراء آبى أحمد في محاولة لتكوين كيان يدين له بالولاء ويبتعد به عن التكوين القومي للأحزاب تواجه مقاومة خاصة من قومية التيغراى الأكثر تأثيرا في الحياة السياسية والاقتصادية الإثيوبية على الرغم من محدودية عددها في مقابل القوميات الأخرى.


وهو تكوين لا يدل على سمت ديموقراطي بالمرة لأن الغالب هو التعصب للقومية فكأن كل قومية أو القوميات المتحالفة كونت كيانا سياسيا يمثلها، فأصبحت الممارسة الانتخابية والتي أعطت لإثيوبيا سمة الديمقراطية في الظاهر ولكنها في الحقيقة ذات أبعاد وتوجهات عرقية واثنية لها أهداف سياسية. 


ومع ضعف قدرة السلطات الحاكمة المتعاقبة على إدارة هذا المجتمع التعددي، فقد حال ذلك دون تحقيق الاندماج الوطني، لا سيما وأن الدستور الإثيوبي سمح للجماعات القومية بالحق في تقرير المصير، مما قد يشكل مستقبلًا مدخلًا مهمًا لتهديد كيانها السياسي وتفتيت إثيوبيا.


وجدير بالذكر أن قومية الأمهرا هي الاكثر تعصبًا لدور إثيوبي بازغ في المنطقة وهي الأكثر تشددًا تجاه الحقوق المصرية في مياه نهر النيل نظرًا لأنها ترى مصر خصما إقليميا يجب الحد من قدراتها.


ولعل تصريح وزير خارجيتها المتشدد والذي ينتمي إلى قومية الأمهرا والذي أقيل أخيرًا بأن مياه النيل الأزرق أصبحت بحيرة إثيوبية مع بدء الملء الأول لبحيرة سد النهضة تشير إلى التوجهات التي تسيطر على ذهنية تلك القومية في إثيوبية تجاه هذا الملف والتي تحاول أن تفرض رؤيتها المتشددة والقومية داخل إثيوبيا.


ونظرًا لموقعها الاستراتيجي الهام من خلال لعب إثيوبيا دورًا هامًا في القضايا المتعلقة بالسلم والأمن وخاصة في منطقة القرن الأفريقي والتي لا تتمتع بالاستقرار وتمتلئ بالعديد من الصراعات فيأتي الصراع الحالي ليلقى بأعباء إضافية على المنطقة.


فهل الصراع بين قومية التيجراى والحكومة المركزية سيؤدى إلى حرب أهلية أو إلى انفصال الإقليم؟، وفق ما يسمح به دستور إثيوبيا فهذا خاضع لمعطيات كثيرة لعل أهمها هو تصرف الحكومة المركزية تجاه الملف لأنها هي التي أدت إلى الوصول إلى هذا الموضع بسوء تقديراتها وعدم قدرتها على احتواء تطلعات اقليم تيجراى، لأن الإقليم لن يتنازل عن مكتسباته لأنها الضمانة الوحيدة أمام القوميات الأخرى الأكثر عددا منه.


ومن ناحية أخرى فإن الصراع إذا ما تمادى فإن هناك احتمالا لانقسام الجيش الإثيوبي الذي يتكون من هذه القوميات وانضمام أبناء التيغراى إلى قوات الإقليم والانفصال عن الجيش المركزي، خاصة بعد الشواهد التي تؤكد بأن سكان منطقة الأمهرة المتواجدة في شمال إثيوبيا على الحدود مع إقليم التيغراي يؤكدون على استعدادهم لدعم القوات الإثيوبية في صراعها مع جبهة تحرير التيغراي الشعبية. وهو الخطر الأكبر على إثيوبيا لأنه ستصبح القومية في مواجهة جنود القوميات الأخرى وهو ما سيؤدى إلى الحرب الأهلية وانهيار الدولة الإثيوبية.


إثيوبيا دولة هامة للدول الكبرى والإقليمية لذلك فإن تدخلها سيكون في صالح الوصول إلى نقطة تسوية أو تهدئة الصراع الدائر لأن مهددات الانهيار في المنطقة الاستراتيجية وطبيعة الادوار التي تقوم بها لصالح تلك القوى سيكون على المحك حينئذ والتي منها بلا شك ما يجرى بشأن مفاوضات سد النهضة وإعادة هندسة خريطة الجغرافيا السياسية في المنطقة.


كذلك فإن ما يحدث لا يخص فقط تحدى إقليم تقطنه قومية للسلطة المركزية ولكن بالتأكيد سيكون له تبعات عديدة على النموذج الفيدرالي نظرا لمتابعة القوميات الأخرى والتي تتصارع مع بعضها البعض نتائج ما يحدث بين القوتين المتصارعتين.

 
فالنموذج الفيدرالي والذي سكن بعضا من آلام الاندماج الوطني الأثيوبي على المحك حاليًا، ولعل تلك الأزمة تعيد اشكاليات الاندماج الوطني في قارة إفريقيا إلى الواجهة مرة أخرى ومن ناحية أخرى بات النموذج الفيدرالي الإثيوبي الحالي محل مراجعة لأن الجميع أيقن أنه لا يحقق الاستقرار الداخلي في تلك الدولة الاستراتيجية في ضوء تمترس القوميات حول مصالحها الذاتية ومراجعة واجبة لسلوك النظام السياسي الإثيوبي سواء في الداخل أو تجاه ملفات المنطقة والتي منها ملف سد النهضة، وكذلك تقييم لأسباب جائزة نوبل للسلام التي حاز عليها رئيس الوزراء الإثيوبي الحالي.