الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. رأفت محمود يكتب: العلاقات المصرية السودانية

صدى البلد

قيل الكثير في العلاقات المصرية السودانية وأكثر ما يمكن أن توصف به بأنها علاقات الفرص الضائعة، كأن القدر الذي يقول إنه لا انفصال بين البلدين يقول أيضًا لا تلاقي يحقق آمال وطموحات الجانبين.


تحكمت الأيديولوجية وما نجح الاستعمار الانجليزي في توطينه ورغبات القوى المختلفة في التحكم في طبيعة العلاقات بين الطرفين، فهي خاضعة لإرث الماضي وتأويله وتصدير نقاط الخلاف بين الطرفين ولم تخضع لضرورة الواقع الذي يفرض على الجانبين التلاقي للعمل سويًا لتحقيق آمال وطموحات الشعبين. 


كل شيء يُمكنهما من الانطلاق من موقع استراتيجي وموارد طبيعية وثروة بشرية وقدرات فنية وعلاقات تجاور ومصالح مشتركة ونسب وتصاهر بين الطرفين والأهم أنهما يكملان بعضهما، فالفقر في مجال عند طرف نجده متوفرا وبيسر عند الطرف الأخر، ولكن دائمًا العلاقات تمضي في اتجاه مغاير للمتوقع، كأنه قُدر لهما ألا ينعما بما حباهما الله من قدرات لو حدث لكان الاثنان في منطقة أخرى، قوتين كبيرتين تنعمان بالرفاهية والأمان. 


ساهمت أياد كثيرة في بناء جدران هدفها الأساسي هو عدم التلاقي بين الدولتين. ودائما يتم تصدير النقاط التي عليها خلاف وليس النقاط التي يمكن أن تؤدى إلى التواصل والترابط بين الدولتين، وصارت العلاقات المصرية السودانية الهدف الأول لأي تغير في طبيعة النظام السياسي.
فالبيئة السياسية في السودان ساهمت في توظيف العلاقات المصرية السودانية في الصراع السياسي الداخلي، فمثلًا فقد ألقت فترة البشير أو مع بداية ثورة الإنقاذ كما أطلق عليها وتحالف البشير الترابي تساؤلات كثيرة في الداخل المصري أكدها ما حدث في أديس ابابا وأن السودان كان وراء محاولة اغتيال رئيس مصري وتحركات تعادى مصر مع محاولات مضنية لشيطنة مصر في الداخل السوداني، فباتت كافة بروتوكولات التعاون مجرد بروتوكولات لا تجد واقعًا على الأرض.


ولعل تقاربه مع التوجهات الإثيوبية في ملف سد النهضة فلم يعر أدنى اهتمام لما قيل من جهات علمية حيادية حول معدلات امان السد الذي يشبه القنبلة على رأس السودان أو التحكم وتغيير كافة معطيات الأمن المائي للدولتين ما يوضح عدم الفصل بين النكاية السياسية التي برع فيها تجاه مصر والتي يتم دعمها من قوى إقليمية كتركيا وقطر وبين الأهداف الاستراتيجية العليا.


ومن ناحية أخرى يلام الجانب المصري أنه تعامل كثيرًا مع الملف على أنه ملف سياسي وأمنى بالأساس وإن كان ساهم الواقع السياسي السوداني على ذلك إلا أن السودان لم يأخذ الأهمية التي يجب أن يكون عليها وأجحف بالتلاقي الثقافي والحضاري بين الشعبين. فغاب السودان نسبيًا عن الوجود الثقافي والملتقيات المصرية والتي سيطر عليها الوجود الخليجي بنفوذه وقدراته المالية وأغفل الوجود الجنوبي داخل المكونات والملتقيات الثقافية والحضور في الإعلام خلال الفترة الماضية وهو ما باعد نسبيًا بين الشعبين.


فماذا نعرف في الحقيقة عن السودان غير أنه بلد شقيق له أهمية لنا، سؤال يوجه إلى الكثير من وسائل إعلامنا التي لم تحاول حتى خلال مرحلة التلاقي حاليا في استكشاف السودان وتقديمة إلى المصريين، فنحن حاليا نعرف عن المشرق في دول الخليج والمغرب ابتداء من ليبيا حتى المغرب أكثر ما نعرف عن الجنوب، عن شريان الحياة والامتداد الطبيعي لمصر والقلب النابض.


كأنه تم التركيز على جانب استراتيجي في العلاقات المصرية وأُهمل جانب آخر والذي كان يمكن اعتباره بمثابة جسر للتواصل مع الداخل السوداني، فكم كان مثلًا تأثير أغنية أغدًا ألقاك للهادي آدم لكوكب الشرق في الداخل السوداني، أو ماذا نعرف عن التيارات الثقافية والأدبية داخل السودان، فلم نر أحدا من قادة الفكر والأدب في السودان حاضرًا في الفضائيات المصرية إلا فيما ندر، أو حتى التعرض للتحديات في المجالات المختلفة في الداخل السوداني.


الآن هموم السودان كثيرة وعلى الرغم من كثرتها ولكنه أيضًا يملك الكثير الذي يمكن تقديمه، فهو ليس ملفا سياسيا أو أمنيا، فالسودان حاليًا محط أنظار الجميع، فلم يعد ذلك البلد المنبوذ خارج سياق المنظومة الدولية، فالتغير جارٍ على قدم وساق لدمج السودان في المجتمع الدولي وحالات استقطاب حميمة من جانب قوى مختلفة على رأسها إسرائيل التي تركز على أطر تعاون السودان في احتياج لها، والتي على رأسها أزمة الغذاء والتقنيات المتعلقة بشؤون الري والزراعة.


عبء العودة بين الطرفين لا يجب أن يقتصر فقط على جهد المؤسسة السياسية والأمنية والذي تبلور في لقاءات وتنسيقات في ملفات وتدريبات عسكرية تجري لأول مرة بين البلدين. فعلى المؤسسات الأخرى أن تذهب إلى السودان بل وتحضره إلى مصر في واقعنا الفضائي المشغول بالصراعات والتنابز بين الاعلاميين والرياضيين والاهتمام بالقضايا الخلافية.


حاليًا بعد أن ذاق السودانيون مرارة الخذلان من انظمة سياسية كانت نتيجتها زيادة الفقر وقطع جزء من جسد الخريطة السودانية بانفصال الجنوب واضطرابات سياسية وأمنية في دارفور وغيرها، واتهامات بتصدير الإرهاب، تجري الأن محاولات مضنية للاندماج مع العالم مرة أخرى ومنها شطبه من قائمة الإرهاب الأمريكية والاندماج والتعاطي مع العالم بقوانين العالم وليس كعضو منبوذ مثلما تم خلال الفترة الماضية. 


وتبقى الطموحات السودانية في تحقيق آمال الشعب السوداني في التنمية واستغلال ثرواته وفتح ابواب الاستثمار والحياة الكريمة وهي كلها آمال لن تتحقق إلا بالتعاون الجدي مع العالم وفق قوانينه.
وتبقى أيضًا فرصة التعاون المصري السوداني هي الأقرب لتحقيق هذه الآمال، فنحن في احتياج الى بعضنا البعض، فلن يشعر بلد بآلام السودان أكثر من مصر، ولن يشعر بالألم المصري أكثر من السودان.

 
الآن وما يحدث من تغيير جذري لإزالة رواسب الماضي لبدء مرحلة جديدة اساسها التعاون المشترك والاستفادة من مكونات قدرات البلدين، فما تستطيع مصر تقديمه للسودان كثير وما يمكن البدء به لتحقيق الترابط بين البلدين الكثير.
الدولتان تواجهان فجوات وتحديات كثيرة يمكن حلها بالتعاون المشترك لإقامة علاقة تكاملية فإذا كان السودان يعاني من أزمة غذاء نتيجة الافتقار الى التقنيات الزراعية أو التصنيع الغذائي يمكن لمصر تقديم الكثير في هذا المضمار.


وإذا كانت أزمة الفيضانات الأخيرة في السودان كانت كاشفة لحجم التردي في البنية التحتية ومؤشرات الاتصال بالكهرباء ومياه الشرب النقية والخدمات الصحية، فلمصر تجربة مشهود لها من كافة دول العالم والمؤسسات الدولية في الاصلاح الاقتصادي وتحسين البنية التحتية وخبرات فنية متراكمة تصدرها الى دول الخارج لعل أبرزها في إفريقيا مثلا ما تقوم به شركتا المقاولون العرب والسويدي في بناء سد نيريرى في تنزانيا.
وتبقى القضية الأبرز كيف يكون التقارب الحالي له صفة الديمومة بلا انقطاع، تواصل بين الشعوب وبين المؤسسات كافة السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية.


 فلتخرج العلاقات بين الطرفين من الغرف المغلقة، وبات الإعلام بمكوناته المختلفة مُطالب بتقديم السودان بتحدياته وطموحاته وتراثه الثري بمكوناته الحضارية والثقافية الحقيقية إلى الشعب المصري، واستحضار قادة الفكر والثقافة السودانيين وليس ما يتم تصديره بصورة مخلة في وسائل الاعلام المختلفة خاصة الدراما والبرامج ضحلة المحتوى.


وكذلك تقديم مصر إلى السودان التي استثمر الكثير خلال فترة عمر البشير لإزالة الجوانب الطيبة وشيطنة الكثير من التوجهات المصرية في المنطقة.


عالم اليوم عالم التكتل والمصالح المشتركة ومصر والسودان يمكن أن يكونا نموذجا أخر لنمر اقتصادي في عالم الجنوب وعلى ضفاف النيل يحقق طفرات تنموية وسوق استهلاكية وقدرات اقتصادية هائلة، ولعله يكون عامل جذب لإثيوبيا للتعاون وتغليب منطق المصالح المشتركة.