الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد شيخو يكتب: الثورات ومخالفة الأهداف

صدى البلد

لماذا لم يحصل الشعوب في المنطقة والعالم على أهدافها في الحرية والديمقراطية والعدالة والتنمية برغم انجازها العديد من الثورات؟

لماذا تحَّورالإنطلاقة الكبرى للأديان التوحيدية في المنطقة بعد فترة وجيزة إلى غير جوهرها الأخلاقي والإنساني وأصبحت أداة لشرعنة القياصرة  والملوك والسلاطين والحكام ولظلمهم وبطشهم؟

ما السبب في عدم تمكن أعظم الثورات في العالم مثل البلشفية، الفرنسية، الأمريكية، وأغلب حركات التحرر الوطني والثورات والتيارات والاحزاب  في تحقيق أهدافهم رغم كل مابذل من التضحيات وماكانت تحملها من أهداف نبيلة و قيم مجتمعية ومصالح عليا للشعوب أثناء حدوثهم ومراحلهم المختلفة؟

 من أجهض حمل الثورات والأديان والمجهودات العظام وجعلتها مخالفة لأهدافها، وكيف السبيل لتصحيح ذلك وتجنبه؟

إنَّ مخالَفة الثورات لأهدافها في أغلب الأحيان و في غضونِ فترة وجيزة، يرتبط بعدم فهمها الدقيق وقراءتها الصحيحة لقضية السلطةِ والدولة والهرمية(الطبقية). والتاريخُ في هذا السياقِ أيضًا مليء بأنقاض عدد جمّ من الثورات المخالفة لأهدافها بدءًا بإنطلاقة الأديان التي زعمت بالأكثر أنها إلهية، إلى الثورةِ الفرنسية التي اعتَبرت نفسها ثورةَ تنوير القرن الثامن عشر وبداية لتشكيل العالم وفق رؤيتها ونظرياتها ، وُصولًا إلى الثورة البلشفية الروسية للاشتراكية العلمية. وحتى أغلب الثورات و حركات التحرر والاستقلال الوطني في المنطقة، وكذلك ثورات الربيع العربي.

أحد الأسباب لهذه الظاهرة يتجسد في أنّ التغلب على دولة أو قوة سلطة هرمية قائمة منذ “فترة قصيرة”، لا يعني التغلبَ على المدنية والحداثة(نمط وذهنية وثقافة الحياة) اللتين هما  طابع و مؤسسة وثقافة “الفترةِ الطويلة”. 

وإذا كانت الدولة المهزومة باتت تشكل مشكلة داخل نظام المدنية أو الحداثة القائم، فالذي سيتعزَّز شأنه بالثورة أكثر فأكثر، هما المدنية والحداثة اللتان تصبغان طابعهما على كافة دول ذاك العهد أو الزمن. أي أنّ التغلب على الدولة لا يعني هزيمةَ السلطة والحداثة. هذا هو  أحد الأسباب الأساسيُّة الكامنة وراء تعزيز وتمكين شأن السلطة في أغلب الأوقات.

تعيش الهرمية(الطبقية) والسلطة على فترات تمتدُّ لمئاتِ السنين كظاهرتين متداخلتين. بينما الدول منتوجات فترات أقصر. أما الثورات، فهي أحداث فترات لحظية. لكنّ هذا الوضعَ لا يدل على عدم أداء الثورات دورًا هامًا في مجرى التاريخ وحياة الشعوب. 
 
لكن خطر هضم الثورات وصهرِها في بوتقة المدنيات وبُنى الدولة الطويلة والمتوسطةِ المدى يظَلُّ قائمًا كاحتمالٍ وطيد. 
 فثورة أكتوبر 1917 لَم تهزم تجاه أية دولة أو حرب خارجية أو ثورة. لكنها هزمت بسبب:
 1_تجسيدها واعتمادها الحداثةِ الرأسمالية(نمط وثقافة الرأسمالية) المتميّزة بنظام بنيوي طويلِ الأَمد. 
2_اعتمادها على ركائز الحداثة الأكثر رجعية وتزمتًا تجاه الرأسماليةِ تحت اسمِ رأسماليةِ الدولة. 
3_عملَت على تطوير عنصري الصناعوية (استخدام الصناعة في تحقيق الربح الأعظمي و خدمة السلطة وليس المجتمع) والدولةِ القومية إلى أقصى الحدود.
4_ وتَعويلُها على فكرٍ قالبيٍّ وثابت دون قراءة دقيقة و تحليلِ معمق متنور للحداثة.
 كان بالنيتجةِ وقوع الثورةَ في حالة مناقِضة ومخالفة وغير مساعدة في تحقيق أهدافِها.

 والقرنُين الأخيرين مليءٌ بأطلالِ هكذا ثورات فحركات التي سميت بالتحرر الوطني والاستقلال و بعض تيارات الاسلام السياسي و اليسار والاشتراكية  والليبرالية والبرجوازية التي كانت في قيادة الثورات في المنطقة ضد الاستعمار التي طالما غنى بها الشعوب أوصل المنطقة إلى مانشهده في السنوات العشرة الأخيرة من تفاقم القضايا وتعمقها.
فما الذي أنتجته  ما تسمى حرب الاستقلال في تركيا 1919_ 1922م  غير الإبادة والإنكار والقتل والتهجير  بحق الشعوب وكل المكونات التي كانت تعيش في تركيا و التي شاركت في هذه الثورة أو حرب الاستقلال، بل أن العلمانيين أو الكماليين والترك البيض(جون ترك) قد خانوا كل العهود والمواثيق التي تم إعطائها للشعب الكردي بأن تكون دولة للشعبين الكردي والتركي وحتى أن الترك أنفسهم أصبحوا وجهًا لوجهة مع الخيانة لكل التقاليد الديمقراطية التي كانت الجامعة للشعوب في الثورة.
ولو تمعنا في  الثورة الإيرانية وسقوط الشاه ومن ثم جلب الخميني من قبل فرنسا وأمريكا لتمكين الطبقة الاسلامية الشعية من الثورة ونسف وهدم كل أهداف الثورة  ولإشعال الحرب الإيرانية والعراقية سنجد نفس الحقيقة. 
كما أن الثورة العربية الكبرى وكذلك حروب وثورات الاستقلال في أغلب البلدان العربية ماذا جلبت للشعب العربي ولمكونات المنطقة غير مانعانيه اليوم سوى جبل من الأزمات والقضايا والمشاكل الاجتماعية العالقة وتمتين وتعميق التقسيم الذي أوجده الاستعمار بدعمه لأغلب السلطات الطبقية لخيانة أهداف الثورات والولوج في الهرمية والسلطوية والدولتية.

وما الذي أنتجته بعض الأحزاب الكردية السلطوتية واللاهثة وراء دولة قوموية  أداتية مصغرة أخرى حتى على حساب غالبية أبناء الشعب الكردي، التي ربطت مصائرها ومصير ومستقبل شعبها بالمحتل والعدو الأول للشعب الكردي الدولة التركية، وحتى اليوم وهي تهاجم مع المحتل التركي عن المقاومين والمدافعين عن حق الأمة الكردية في إدارة مناطقها والعيش بخصوصياتها وبأخوة مع شعوب المنطقة كما حصل في  ناحية جمانكي ويحصل في  قرية "كانيه وسركليه" في ناحية آميدية بالقرب من دهوك قبل أيام . 
. ولو نظرنا لأحداث العشر سنوات الأخيرة من ما سمى الربيع العربي لوجدنا الغريب العجيب، فمن خرج لأجل الحرية والكرامة وبعد أشهر وربما أسابيع أصبح بدون كرامة وبل أصبح مرتزق وإنكشاري كما يحصل مع قسم من المعارضة السورية ومع مايسمى " الائتلاف الوطني السوري " و"الجيش الوطني السوري" الذي شكلته المخابرات التركية و الذين أتوا على الدبابات التركية وتحت طائراتها المسيرة لغزو واحتلال أرض وطنهم سوريا و لاحتلال مدن عفرين وسرى كانيه(رأس العين) وكرى سبي(تل أبيض) والباب وجرابلس وإدلب وغيرها.
وبل وأن التنظيم الأرهابي الأخوان المسلمين ومنذ الأيام الأولى من هذه ثورات الربيع العربي كان همه وجل تركيزهم على الوصول للسلطة والدولتية وليس تحيقيق أي هدف من أهداف التحركات الجماهيرية في الحرية والديمقراطية والمساواة والعيش الكريم والرفاهية.
فأغلب الثوراتِ الوطنية والشعبية في المنطقة التي حصلت وتحصل والتي سقطت في حالة مناقضة تمامًا لأهدافها لتمأسسِها بالتزامنِ مع هدف الدولةِ القوموية المركزية الاستبدادية، لم تستطِع شعوبنا من الخلاص من استذكارِها تدريجيًا بحنقة وغيظ وأَلم عميق.

ولو أردنا صياغة التفسير الثوريَّ للأديان التوحيدية الثلاثة في المنطقة بموجب إطار  مخالفة الأهداف، فسندرك بنحوٍ أفضل دوافع مخالفتها أهدافها النبيلة. فجنوحها نحو السلطةِ والهرمية المتمتِّعتين ببنى مادية ومعنوية طويلةِ المدى، وتدولها الفوري أومملكتها أو سلطنتها أوإمارتها بمعنى التحكمي والتسلطي، هما السببان الأوليان لفشلِ هذه الثوراتِ الدينية. وضمن هذا الإطار، بالإمكان استيعاب انحراف هذه الأديان التوحيدية الثلاثة مرارًا عن أهدافِها التي ناضلت في سبيلِها، وكأنّ ذلك قانونُ ثورة مضادة.


 من هنا، فالنشاط والكفاحُ والنضال تجاه ثقافةِ الهرميةِ والسلطةِ والدولة وذهنياتها، يقتضي التفسير الموفق والصحيح للتاريخ (تاريخ العناصرِ والمقوِّمات الديمقراطية)، والاستخدام القويم للعناصرِ الذاتيةِ المضادة المعَرَّفة بمنوال سليم. ولا يُمكِن للثوراتِ أن تكون ناجحة، إلا بالتحامِها وتكامُلِها مع العصرانيةِ الديمقراطيةِ التي هي نظامٌ طويلُ المدى وتمثيل معَّبر للثقافة والأخلاق والقيم المجتمعية والإنسانية، وذلك بناءً على هذا الأساسِ ودون التناقضِ مع أهدافها.
 لقد عاشت المدنياتُ أو الحضارات التي تعبر عن ذروةِ ثقافةِ الهرميةِ والسلطةِ والدولة ومنها الأمبراطوريات ودول المدن و المملكات والسلطنات والإمارات ومختلف أشكال الدولة المركزية أطول فترة زمنية وبأشدِّ كثافة في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث منذ أيامِ كلكامش والسومريين عرفت السلطةَ بأنها مرض. ومن هنا بوسعِنا فهم أسباب بقاءِ الثقافة الديمقراطيةِ في القاعِ دومًا في المنطقة، باعتبارِ أنّ الهرمية أي الطبقية والدولة والسلطة ولدت في هذه المنطقة، ولأنها مهدُ أطول ثقافة تعدُّ المنبع والأرضية الخصبة لنشوءِ كافة السلطاتِ والدول. كما من المفهومِ بقاءِ دور الثوراتِ محدودًا في المجتمعِ الذي يعتَبِر فيه كلُّ ربّ منزل نفسه إمبراطورًا صغيرًا. أما النظرُ إلى الحداثة(ثقافة الحياة المادية والمعنوية) بأكملِها على أنها ثورة، فيجعلنا ندرك أبعاد القضايا الاجتماعية الراهنة.
تمَّ استيعاب وفهم أن امتلاك دولة قومية في القرنين الاخيرين وكأنه بمثابةِ تحقيق أعظم لقاء مع الربّ والله. بل وحتى إنّ الآلهة القديمة أُقحمت في الهرعِ إلى خدمة إله الدولةِ القومية الجديد الذي نزل على الأرض كما قال عنه هيغل في صيغة نابليون بونابرت. ولا تزال الدول القومية الشرق أوسطية غيرَ مدركة بأنها كلّفت بوظيفتها كأداة  قمع وحرب تجاه بعضِها بعضًا وتجاه ما حفظَته على أنه مواطنٌ ومجتمع ، وبأنّ هيمنةَ النظامِ القائمِ ومصلحتها قد أناطَتها بهذا الدور. 
فكأنّ تركيز السلطة، وصبغ الدولة القومية بالوطنيّة المغالى بها، يعدُّ دورًا مُناطًا بالثورة الوطنية. وهكذا ثورةٌ مَشحونةٌ بهذا الكمّ من التناقضات، دَعنا من فرصتِها في النجاح، بل لا مناصّ مِن تشكيلِها ضربةً مُلحقةً بالمساواة والحرية المزعومتَين. إذ لا يمكن للثورات أن تخدم الديمقراطيةَ والمجتمع المتساوي والعادل والحرّ، إلا عندما تكُونُ مناهضةً للمركزية والسلطوية.
 وباعتقادنا لن تجِد الثقافةُ الديمقراطيةُ في المنطقة فرصةَ النماءِ والتطور،و لن ترى القضايا الاجتماعية والوطنية الحل الحقيقي إلا بمدى تجاوُزِها للبنى و للثقافة الدولتيةِ القومية والسلطوتية المبالغِ فيها، التي هي في مضمونِها تعبيرٌ مُكَثَّفٌ عن الاحتكارات الاستغلالية. واعتمادها المجتمعِ الديمقراطيّ، الذي هو تعبير مكثَّف عن المجتمعِ الاقتصاديِّ والأيكولوجيّ. فالأمم الديمقراطية، والعصرانية الديمقراطية بصفتِها تعبيرًا نظاميًا عنها، تمَثِّل عصر وثقافة تخطّي القضايا النابعةِ من الهرميةِ والسلطةِ والدولة.
نعتقد أنه يجب ألا تقع الثوراتُ في مراحلها و بعد انتصارها في مرضِ السلطة و الدولتية والطبقية، كي تغدو قيِّمة ثمينة، وكي لا تدخل في مفارقة وتناقضٍ مع أهدافِها. فالثوراتُ الصائرةُ سلطةً ودولةً على الفور وحتى في مراحلها، لا تعتبرُ منتهية زائلة فحسب، بل وتصبح خائنة لأهدافِها في المساواة والحرية والديمقراطية والعدالة والتنمية. وبهذا المعنى، فتاريخ الثورات يحيا مأساة تاريخِ الخيانةِ أيضًا. والثوراتُ الفرنسيةُ والروسيةُ والإسلاميةُ والتركية والإيرانية والربيع العربي مفغمةٌ بالعِبَرِ العظيمة على هذا الصعيد. 
من الأهمية العظيمة ربط الثورات بقِيمِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ الطويلِ المدى، عوضًا عن ربطِها فورًا بشروطِ السلطةِ والدولة. أما أُسس المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيّ، فلا يمكِن تهيئتها و رصفها إلا  بالخط الاستراتيجي الثالث المجتمعي، الذي يستند إلى السياسة الديمقراطية. ومن دون إنهاضِ وتسيس المجتمعات بالسياسة الديمقراطية لإظهار إرادتها الحرة، وتأسيسِ التنظيمات الديمقراطية وتنشئة القيادات الديمقراطية في كلِّ مجموعة ومكان، وتجربة وتوطيد نمطِ الحياةِ الديمقراطيةِ على المدى الطويل، يستحيل إنشاء المجتمعاتِ الأخلاقية والسياسية، أو تكوين المجتمعاتِ الديمقراطية، وبالتالي الأمم الديمقراطية أو إنجاز أي ثورة بالشكل المحقق لأهدافها.