الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إبراهيم عطيان يكتب: التفكير بعقل الجماعة وسلوك القطيع

صدى البلد

 

أحيانًا يتطلب منا الأمر أن نتوقف عن التفكير لبعض الوقت، ولكن ليس من الممكن أن تمر على الإنسان ساعات دون تفكير وأحاديث في قضايا متفاوتة ومختلفة، ولا أكون مبالغًا إذا قلت أنها دقائق وليست ساعات، ليبدأ بعدها التفكير والحديث مرة أخرى، ثم تختلف الرؤى لاختلاف التوجهات والأهواء، وهذا من الطبيعي أن يحدث؛ ففي الاختلاف والتنوع نجد مظهرًا من مظاهر الحياة، وسرًا من أسرار الكون، وفيه رحمة من الخالق جل وعلا بعباده؛ ففي اختلاف العلماء والفقهاء على سبيل المثال رحمة بالعباد؛ فبعض المسائل إذا اتُّفِق عليها شقت العبادة على الكثيرين، وكذا فإن الاختلاف يعكس الفرق بين العالم والجاهل، والقائد والرعية، والحق والباطل، والخير والشر. 
ولقد فطن الناس إلى ذلك وعرفوا أن الاختلاف ظاهرة صحية، وضرورية ليس فقط في تجنب المشكلات، وإنما أيضًا في تطوير الحياة والتكيف مع المستجدات في عالم لا يثبت على حال.
ولا أظن أبدًا أنه من المعقول أن يجتمع الناس على منهج واحد أو طريقة واحدة، وهو بالطبع ليس مطلوبًا أو محبَّبًا، ولكن حديثي هنا عن تجنُّب الأخطاء الواضحة، والتعصب الذي يسبب العداوة والبغضاء وينشر الاضطراب والشتات.

من أجل ذلك تساءلت كثيرًا: 
لِمَ لا يخلو كل واحدٍ منا بذهنه لبعض الوقت، ثم يحاسب نفسه ويقيِّم ذاته وأفعاله، ويراجع ميوله؛ لينأى بنفسه عن الانحراف والانجراف خلف أفكار أو أشخاص، ويحتاط ألاَّ يكون من المشمولين بمفهوم الأخسرين أعمالا كما يقول الله عز وجل:
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا }.
ومحاسبة النفس عادة تحتاج إلى صفاء، والصفاء لا يكون إلا بخلوة ولو مؤقتة إن كنا نريد النجاة والفوز، على المستوى الفردي والمجتمعي.
وليكن لنا فيما فعله كفار قريش مع نبينا الأمين عبرة وعظة،
فلقد تفنن المشركون في عداء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم،
واتهامه بالسحر والجنون والكذب، فأنزل الله على رسوله قوله: 
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ۖ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾

وهنا نأخذ من النص القرآني أهمية فكرة الخلوة بالنفس والتفكير الفردي ومراجعة القناعات؛ لكي لا تذهب حيث يذهب الجميع دون تفكير، وهذا ما أكدنا عليه في مقال سابق بعنوان " الذين ضلَّ سعيهم "

وها نحن اليوم نؤكد على سطوة الجماعة على عقول أفرادها حتى يفقدوا قدرتهم على التفكير؛ لنستكمل ما بدأناه حول التفكير الفردي وأهميته، فلو انفرد الشخص بنفسه وفكَّر بعمق فربما يغير كثيرًا من قناعاته الخاطئة، التي غرستها إملاءات الفكر الجمعي في رأسه، كما يحدث مع أكثر الفئات تأثرًا بالتفكير الجمعي وهي فئة الشباب، ولاسيما الفئة التي غالبًا ما تكون مهمشة في حياتها، فيسهل استغلالها وإغرائها بحصولها على أشياء تتمناها ولا تمتلكها، وربما هناك أسباب أخرى تدفعهم للتسليم بصحة الفكر الجمعي الذي غالبًا ما يكون موضوعًا بعناية لخدمة أشخاص أو جهات بعينها؛ فهذا رسولنا الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم سادات قريش ومشركوها الذين كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويلقبونه بالصادق الأمين، ومع ذلك لم يطيعوه لمانع ما في نفوسهم، وقد تعدَّدت موانع الإسلام عند أهل مكة، فكان منهم من منعته التقاليد، وكان منهم من منعه الجبن، وكان منهم من منعته أمور أخرى، كان أشهرها القَبَليَّة، كما منعهم أيضًا الخوف على الشهوات والملذات والمصالح المالية والسيادة والحكم، 
وانجرف خلفهم أتباعهم دون تفكير، فأتم الله حجتة عليهم حين قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: 
قل لهم يا محمد: إنما أعظكم أي أذكركم وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه بواحدة، أي بخصلة واحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى، وتتفكروا مجتمعين وفرادى،
هل هو مجنون كما تقولون؟!
هل جربتم عليه كذبًا أو رأيتم فيه جنة، أو في أحواله من فساد، أو عرفتموه جشعًا يطمع في أموالكم؟!.
وقيل: إنما قال: مثنى وفرادى؛ لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلًا أوفرهم حظًا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى لهما من العلم ما استعصى على الانفراد.
والله أعلم..
وبالعودة إلى موانع الإسلام عند أهل مكة نجد أن الكِبْر أيضًا من الموانع التي منعتهم من الإيمان، وما أكثر الذين امتنعوا عن طريق الحقِّ بسبب هذا الخلق الذميم، ولقد ظهرت هذه الصفة مع بداية قصة الخلق، ومنذ آدم عليه السلام، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: 
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البقرة: 34]. 
فاقتضى كِبْر إبليس هذا كفره وطرده من الجنَّة، وإبعاده عن رحمة الله تعالى.

الخلاصة بعد استعراض هذه الموانع، سيقودك العقل والفكر المعتدل للتسليم بأن معظم أصحاب الرأي والسيادة والشرف في مكة قد رفضوا هذا الدين لسبب أو لآخر، وكلها كانت أسباب فردية شخصية تخصُّهم فقط دون غيرهم، ولا تُعَبِّر عن مصلحة المجتمع، وكذلك ستدرك أن معظمهم كانوا يعرفون الحقَّ، وبالرغم من ذلك اختاروا مخالفته عن عمد؛ ولكنهم أمام الرأي العام لن يقولوا مثل هذا الكلام، فلا يستطيعون أن يجهروا بأنهم يُضَحُّون بمستقبل مكة؛ من أجل مصالحهم الشخصية فاختاروا قضايا معينة واضحة في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليناقضونها، ويدَّعون أن ما جاء به هو الباطل، أو أنه قد خالف العقل والمنطق، فرفضوا الانخراط في هذا الدين، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بسبب هذه المخالفة.

أردت هنا أن أسقط الآيات على كل من تشابه عليه الأمر ولم يفرق بين الصواب والخطأ، لا على مجرد الكافرين الضالين، ومعاذ الله أن نحكم على أحدٍ بذلك، ولكنها دعوة إلى إعمال العقل في رسالة نوجهها إلى كل متعصب برأيه، أو متحيِّزٍ إلى تيارٍ ما، سواء كان فكريًَّا أو سياسيًَّا وهم كُثُر، أن يفكر كثيرًا ويراجع نفسه ولا يدعها دمية يتلاعب بها أصحاب المصالح الذين عرفوا الحق واختاروا مخالفته...