الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نبيل النجار يكتب: مرتزكة.. (قصة قصيرة)

صدى البلد

أزر.. ماذا؟.
ـ أذربيجان.. أذربيجان أمي.
التفتتْ جدتي هنا وهناك كأنها تبحثُ عن هذه الأذربيجان التي لم تسمعْ عنها يومًا، ولم تستطعْ حتى لفظَ اسمِها، جلست القرفصاءَ، وضعت رأسها بين كفّيها وأخذت تهتز يمنة ويسرةً؛ بدأت تنوحُ بصوتها المتحشرجِ موالًا:
      حباب القلب راحو شروقي
      أخذوا ضوى العين وأخذوا شروقي
     بالله ياهوى الروح ردهم بالشروقي
أخذها النواح..أو ربما نسيتِ الكلمات، لكنها استمرتْ بهزّ رأسِها. اقتربَ أبي منها، قبّل يدَها ورأسَها: 
- أمي كرمى لله لاداعِي لهذه المناحة، تعرفين أنني مضطرٌّ، مرغمٌ؛ هل كنتُ سأترككم لولا ذلك؟.
اقتربتْ عمتي منها، حاولت أن تحضُنها، أما أمي فقد صارت تنشُجُ بصوتٍ عالٍ بعدما كان بكاؤها صامتًا، وقف والدي حائرًا بين سيلِ الدموعِ الذي يحاصرُه من جميع الجهات، أدخلَ كفّيه في جيبيْ بنطاله المُموّهِ بالأسودِ والأخضرِ والأصفرِ الباهت.
ـ طيب أخبِروني ماذا أفعل، لوبقيتُ من أين نأكل؟
 هنا لايوجدُ شغلٌ، والأرضُ إما محروقةٌ أو مزروعةٌ بالألغام أكثر من الشجر، هل أبقى ونفتحُ فمنا للهواء؟ أو أسافر وأقبضُ ألفًا وخمسمائة دولارِ كل شهر؟.
اقتربت والدتي بصمتٍ، وضعتْ حقيبتَه عند قدميه؛ ألصقتْ صدرها بظهرِه، نظر إليها؛ انكسرتْ عيناهُ قليلًا، رقَّ صوتُه عن المعتاد:   
- لاتخشيْ شيئًا سعدية، ذهبتُ المرة الماضية إلى ليبيا وعدتُ..ماذا جرى لي؟ لاشيء..كما ترين.. عمرُ الشقي بقي.
ـ طيب عد إلى ليبيا..قالت جدتي وكأنها الوحيدةُ التي تستطيعُ الكلام..بلاد نعرفُها وتعرفُنا..عربٌ مثلَنا وفيها نقود..ليبيا أحسنُ من هذه ال..ال..
ـ أذربيجان جدتي...أنجدتها لتتذكرَ
هزت يدَها في الهواء كأنها تطردُ الكلمةَ اللعينة.
ـ أمي تركيا تريد أخذَنا إلى هناك؛ انتهتْ أيام ليبيا
ـ يلعن أبو تركيا... ً ماذا جاءَنا منها إلا الخراب؛ تأخذ رجالَنا و..و.. يلعن أبوها على..
نفيرُ سيارةٍ قاطعَ الحديثَ، نظرْنا لوالدي ونظرَ هو إلينا، عدّل سِترتَه بحركة من كتفيه.
ـ جاسم..احمل الحقيبة.
علقتُ حقيبتَه على كتفِي ومشيتُ وراءه، أخذها مني عند الباب، أمسكَ بكتفي:        
-جاسم.. أنت رجلُ البيت من بعدي..حافظْ عليهم واحمِهم.. فهمت؟ ربّت على رقَبتي بكفّه الضخمة.
نفختُ صدري؛ حاولت شدّ قامتي أكثر، نظرت إليهم لأتأكدَ أنهم قد سمعوا وصيةَ أبي الأخيرة.
عادت جدتي للهزّ والغناءِ بنفس نغمِها الرتيبِ:
        آه ياشجرة الفستق الحلبي
ضاعت منها الكلماتُ ثانيةً، كرّرتِ الجملةَ عدة مرات حتى تأكدت تمامًا أن الذاكرةَ لن تسعِفَها فصمتتْ واستمرت بالاهتزاز الرتيب.
جلست مكان والدي، أصلحتُ وضعَ الوسائدِ كما يفعلُ، إتّكأتُ وسحبتُ نربيشَ النرجيلة، كركرتُ مياهَها، اندفعَ طعمٌ كريهٌ لفمي ثم غرقتُ في النوم، حلمتُ بأبي يقطِفُ شجرةَ فستقٍ حلبيّ في أرضِ غير أرضِنا فكرتُ أنها أذربيجان.
استيقظتُ على قرعِ الباب؛ 
ـ أهلا حبابتي*، قبلتُ يدَها؛ صرختُ بحبور: أمي جاءت أمّكِ.
حضورها سيبدّدُ جوّ الكأبةِ والوجومِ الذي سيطرَ على البيتِ بعد رحيلِ والدي؛ جدتاي كالنار والزيت لاتلتقيان إلا وتحصلُ خناقةٌ وسبابٍ، لِذا تفاءلتُ بسهرةٍ مليئةّ بالضحك والسرور.
ـ مثل ما ودّعتم تُلاقوا، يروحُ ويرجعُ بالسلامة إن شاء الله، ناولتْ كيسًا صغيرًا لأمي التي سندتها حتى تدخل الغرفة.
ـ الله يسلمك؛ ردت عليها جدتي من خلفِ شفتيها.
دخلت عمتي تحمل عدة المتة* وموقدًا غازيًا صغيرًا كانت قد نسجت له ثوبًا صوفيًا فيه خيوطٌ براقة.
فتحتْ أمي الكيسَ ثم تناولت سكينًا قريبًا.
ـ فاكهة الدار تطيل الأعمار؛ أشارت جدتي لمحتوياتِ كيسها الذي ظهرت منه حباتُ الكَسْتناء البنّية اللامعة.
عدت للإتكاء في مكاني الجديد فيما بدأتْ أمي تحز حزوزًا طولية على تلك الحبات.
ـ حبابة..لماذا يلقبوننا ببيت الناجي؟ إحكي لنا القصة.
أمي نظرت لي شَزرًا.
ـ من قال أنكم بيت الناجي، كل الضيعة تعرفُكم بيت العيار، من أين خرجْتم لنا بقصة الناجي؟.
ـ إسمع جاسم، قالت جدتي وهي تشخرُ كأس المتة قبل أن تعيدَه لعمتي..والدي كان العائدَ الوحيدَ أيام السفرِ برلك، فسمونا بيت الناجي.
ـ السفر برلك؟.
ـ الأتراك العثمانيون كانوا يلمّون الشبابَ الأقوياءَ ويأخذونَهم ليحاربوا في السفر برلك.
ـ مثل أبي الآن؟.
تدخلت أمي بعد أن نفدَ صبرُها:        
- ألمْ يعلمونكم شيئًا في المدرسة؟ كانوا يأخذون الرجالَ غصبًا، طفرتْ من عينيها الدموع فاختنقَ صوتها وأحْنَت رأسَها.
ربّتت عمتي على كتف أمي،سحبتْها قليلًا، ضمّتْها جانبيًا بصمت. 
سادتْ لحظةُ وجومٍ ثقيلةٍ، ثم عادت جدتي للحديث بعد أن لمست ركبتي: أيامَها، دخل الجنود وبدأوا يلُمّون الشبابَ من الحقول والبيوت والمتابن، لم يتركوا إلا الصبيانَ والعجائزَ والعرجانَ والمهابيلَ، تركوا أباهاـ أشارت لجدتي لأمي ـ كان طرطورًا، وضعت يدَها على فمِها حتى لايسقطُ طَقمُ أسنانِها أثناء الضحك.
ـ أنا أبي كان طرطورًا، أجابت جدتي بهياج، قولي أن والدَك كان لصًا جبانا ًسرق الأموات وعاد لينصبَ على أهالي الضيعةِ ويسلبَهم أراضيهم.
حبةُ كستناء فرقعتْ كأنها تريد المشاركةَ في الجدال الحامي أو أنها كانت تدافعُ عن جد أبي.
ـ أبوك جلبَ معه نقودًا؟ جدتي، الأتراك أعطوه؟.
ـ إفهمِ القصةَ جاسم واحفظْها، قائد الحملةِ كان يركبُ على حمار، كانوا متجهين لحرب اليمن بعدها ضاعوا في الصحراء بين الرمال ولم يعد معهم طعام ولاماء، لما جاعوا كثيرا ذبحوا الحمار، أبي اشترى خِصيتيه من اليوزباشي، اشتراهما بمجيديين.
الخصيتان، جاسم كلهم عروق وجذور مثل الخيطانِ كان يؤجرُهم للعساكر يعلكونَها ويلوكونَها مدة ويعيدونها.
جدتي وهي تشرحُ عن الخصيتين كانت تكوّر كفَّها وتمدّها أمامنا، أمي وضعت يدَها على فمها كأنها تمنعُ التقيُّؤَ وكذلك فعلت عمتي.
ـ الله يسرها معه وأعاده سالمًا ومعه نقودًا أيضًا.
ـ عاد وياليتَه ماعاد، بدأ ينصبُ على أهل الضيعة ويستولي على أراضيهم، وأولهم أراضينا.
ـ لماذا نصب؟ تحفّزت جدتي وارتفعَ صوتُها، كله بيعٌ وشراءٌ والحججٌ مازالت موجودة، أيامها أنا كنت واعية..أبوك كان يبيعُ الأرض ليأكلَ حلاوة طحينية ويشربَ المتة، بعمره ما مسكَ رفشًا.
ـ أصلًا..الحمار الذي استولى عليه اليوزباشي كان من بيت جدي المختار، فكل الأراضي التي اشتراها أبوك من خصيتي حمارنا.
نفضتْ جدتي يدها في الهواء بعصبية: 
- إذهبي وخذي الأرض التي تشبع عينيك..إذهبي احفري بها قبرًا، ماهي الأراضي بالأخير ستصير لأولادِ ابنتِك.
لملمتْ أطراف ثوبِها بعدما أبعدت من أمامها صحنَ الكستناء المشوية، استندت على أمي لتصلَ قرب الباب: أبناء ابنتي!.. أبناء ابنتي سيطلعُون لأبيهم وأجدادِهم مرتزكة.. أصلًا صاروا يلقبونكم بالضيعة ببيت المرتزكة.
تساءلت جدتي بدهشة:         
- ماذا قالت؟ ماهي الكلمة؟
ـ مرتزكة جدتي مرتزكة.
ـ سمعتها لكن مامعناها؟ أكيد تشتمُنا!.
رفعتُ يدي وقلبتُ شفتي السفلى.
……….
*حبابة: هي الجدة أم الأم أو الأب بلهجة الشمال السوري.
*المتة: مشروب عشبي أصله من الأرجنتين، تعرف عليه السوريون نتيجة الهجرات الى أمريكا الجنوبية خلال فترة الاحتلال العثماني، له طقوس خاصة في الشرب، يقال انه مفيد لادرار البول ويعطي إحساسا بالشبع.