الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد شيخو يكتب: المنطقة بين الهوية المجتمعية والهيمنة العالمية

صدى البلد


مع مانعانيه من القضايا والأزمات والفوضى أين هي الحقيقية، وخصوصًا في ظل مايتم سرقته ونهبه من كدح الإنسان والمجتمعات من قبل الأشخاص و الفئات التي كانت منبوذة طيلة التاريخ من قبل الوعي الجمعي الأخلاقي المجتمعي، تلك الأشخاص والفئات التي كانت تختبئ في التشققات عبر التاريخ،  وهي الآن تنظم نفسها كقوة سلطة واحتكار قوة واقتصاد وتكنولوجيا ومعلومات؟
كيف يتجسد صراع الحق والباطل في راهننا وفي منطقتنا والعالم في ظل سياسات الإبادة والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي؟ هل من الممكن أن نعتبر ماتفعله نظام الهيمنة العالمي وتوابعها وأدواتها من السلطات والدول القوموية في المنطقة والعالم،  وكذلك امتلاك نظام التعليم و المعلومات  الموجهة وتوجيهها  والعولمة من جهة ومن جهة أخرى إصرار و مقاومة الإنسان والمجتمعات والشعوب في الحفاظ على هوياتها المجتمعية و ماهيتها الأخلاقية والديمقراطية والسياسية مع الإستفادة من نتاج المجهود البشري والإنساني العلمي والمعرفي الذي يحاول نظام الهيمنة استغلاله وإستخدامها  لتحقيق دوام الهيمنة و محاولة تجاوز أزماته البنيوية وتسريب مفهوم سلطته إلى أدق مسامات المجتمعات والشعوب وإضعاف الروح المجتمعية الجامعة وثقافتها واحلال الفردية والأنانية محلها . 
في ظل فرض الهويات المكتسبة غير الحقيقية  لغايات تخدم سياسات القوى المركزية في النظام العالمي دون مراعاة إرادة الإنسان والمجتمعات والشعوب،  ما مصير الهويات المجتمعية الأساسية المجسدة لذهن وفكر وحافظة  وثقافة وروح المجتمعات عبر ملايين السنيين، لمن تكون الغلبة؟
وهذا كله في ظل الحروب والصرعات المفتعلة كنتيجة طبيعية لتقسيم الجغرافيات الطبيعية للشعوب والمنطقة وخلق بؤر توتر واضطراب ودول مصطنعة وظيفية  للشعوب التي عاشت على أرضها منذ عشرات الآلاف السنين، هذه الحروب التي تخلق هجرات ولاجئين بالملايين وتخلق تجمعات  وفراغات  وثقوب غير طبيعية في الهويات المجتمعية وفي بنية المجتمعات.
ماهي الحقيقة التي نبحث عنها الأن أو التي يجب البحث عنها، هل هي نفسها التي كانت ردًا على أيام الجاهلية في بلاد العرب وربما على الظلم في الإمبراطوريات الأشورية، الرومانية، البابلية، الساسانية ، هل هي الكونفدرالية الميدية التي حررت شعوب المنطقة حينها، هل هي سر الوجود والخلود التي بحث عنها جلجامش في بحيرتي وان  وأورمية في كردستان قلب ميزوبوتاميا ومركزها، هل هو الحق الذي تكلم به زرادشت، وأسيادنا إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، أم أنه الذي ذكره الفلاسفة والعلماء وبعض الشعراء مثل غاليله وبرنو وأرسطو وسقراط  وحتى منصور الحلاج والسهروردي وإبن سينا وإبن خلدون وأحمد خاني وجيكرخوين وجبران خليل جبران ، أم هي الحقيقة التي جسدها موسيقا زرياب وسمفونيات بيتهوفن وموتزارت وتشايكوفسكي وأغاني فيروز؟. أما هي عند المرأة ودورها المسروق وعبوديتها المختلفة الأشكال والعناوين التي قامت كل السلطات والهيمنات على النيل منها. هل من الممكن أن تكون الحقيقة هي التي بحثت عنها الثورة الفرنسية والبلشفية وحركات التحرر الوطنية؟ هل الحقيقة في منطقتنا هي الكرامة و الديمقراطية والحرية والعدل والتنمية؟  أم أن الحقيقة هي الهوية المجتمعية بذاتها؟   
 
منذ القدم   كان يعرف الباطل الجائر بأنه استغلال الكدح المجتمعي ونهب القيمة المجتمعية، وقد كان نشاط الحقيقة  الذي يمثل البحث والتدقيق فيها ومحاولة الفهم نبيلًا ومبجلًا. ولذلك أصبح الباطل مؤديًا إلى البحث عن الحق   
وكذلك المطابقة والمساواة بين الحق والإله، وهنا نلاحظ إنعكاس أواصر كلا المصطلحين مع المجتمعية و مصداقية علاقة مصطلح الإله مع الضمير المجتمعي خارج إطار كونه تجريدًا ميتافيزيقيًا.

في ظل ثقافة ونمط الحياة التي تفرضها نظام الهيمنة العالمي الحالي أصبح أنماط الحياة المتجانسة النمطية المركزية البعيدة عن طبيعة الحياة والطبيعة المتنوعة ممثلة بقوة ويتم فرضها بنحو غير مسبوق ربما لم يحصل قي أي قرون . حيث جعلت قوالب الحياة الكل نمطًا واحدًا تحت مظلة القواعد الكونية  والعولمة والأدواة المختلفة والأعلام الرقمي الموجه. وصار الاختلاف سقيمًا وضحلًا في وجه عمليات التنميط، أما عدم القبول و التمرد والرفض على نمط الحياة المسماة بالعصرية فيوصف بالأحمق و الساذج والمجنون ويرمى بها خارج النظام القائم وربما في غياهب السجون حتى لو كان الحق كله معك. ونادرون جدًا هم الاشخاص الذين يبدون الجرأة على مواظبة استمرار السعي نحو الحقيقية و التمرد إزاء تهديد النفي هذا.
 
إن البحث عن الحقيقة يعني مساءلة ومحاسبة الظلم والباطل والإبادة والتزييف. وعندها تكون الهوية المجتمعية التي تقدم نفسها على أنها الإله بوصفه الموجود الأسمى، وقد ردت على الظلم المرتكب بحقها وحكمت عليه وسعت على التغلب عليه وتجاوزه واعتبرت رفع الجور والغبن عقابًا إلهيًا. و تم التأكيد على هذه الهوية أكثر والتمسك بها مع إزدياد حالات الخطر والطغيان والظلم المحيطة بالهوية المجتمعية من داخل المجتمع ومن مختلف الطبيعات الخارجية ،  وتمت صياغة النظريات المساوية والمعادلة للرأي الإلهي ومزاولة الممارسات الإجرائية المعادلة للأعمال الإلهية إكرامًا لها. ولهذا السبب بالتحديد من الأهمية بمكان إدراك كون الهوية المجتمعية تقع في منبع الدين والفلسفة ولها دور محوري.

وفي ظل الهيمنة  الفكرية والإيدولوجية والإعلامية والمعلوماتية  للنظام العالمي المهيمن يبقى من الأهداف الرئيسية لهذا النظام هو تشويه وتعتيم وقمع الوقائع الإجتماعية فيما يتعلق بمصطلح الحقيقة وممارستها، حيث  تم تحويل  الدين والفلسفة  إلى أدواة مسخرة لخدمة مباركة وتقديس القوموية وتأليه الدولة القومية، وحصرت النظرية والعملية  بإجلال وتخليد ممارسات الدولتية القومية وسلطاتها الذكورية. واختزل دور العلم  المتمحور حول الفلسفة الوضعية  إلى تحليل وحل القضايا الناجمة عن نظام الهيمنة العالمي الليبرالي وتم احتكار المعلومة واستخدام الذكاء الاصطناعي لزيادة التحكم والسيطرة والهيمنة والنهب والمراقبة ، وأما الكفاح والإصرار من أجل الحقيقة  والذي يمتاز بتارريخ عريق  بقدر عراقة التاريخ البشري تم تحجيمه وتحويله إلى تحقيق منافع بسيطة وزهيدة فقط وربما شخصية وفئوية وحزبوية. وبالرغم من أن الهوية المجتمعية تشكل القضية والإشكالية الرئيسية، لكن تم إخراجها من كونها الحقيقة و تم السعي على إحلال الفردية والأنانية محلها، وصيرت حقوق الإنسان موضوع استثمار واستغلال، وحتى أن الأراء المضادة لنظام الهيمنة تعرض نفسها على أنها السيادة المطلقة والقول الحق دون امتلاك الجرأة و والفهم والمعرفة والوعي على تجاوز براديغما  ومنظومة فكر نظام الهيمنة العالمي وهكذا تمكنت الليبرالية باعتبارها الإيدولوجية الرسمية للنظام القائم  من الاستمرار والاحتكار  المبني على اليسار واليمين وحتى أن أي سعي من الهويات المجتمعية في التعبير ومحاولة التغيير يتم إعطاء الأوامر لأدواة للنظام العالمي المهيمن مثل التيارات الشوفينية والإسلامية السياسية لركوب موجتها والتسلل إليها حتى أصبح السلطات والمعارضات في كثير من الأحيان لهم نفس فكر ومنطق إنما الاختلاف فقط في المواقع كما هي حال تركيا والعديد من دول المنطقة والعالم .
 وتخلق الليبرالية  تضخمًا في الأراء  وعبره تنجز أقصى سلب و نهب و  تستخدم ما يلزمها  من تلك الأراء المضخمة  في تعريض الاذهان للقصف بوساطة أجهزتها الإعلامية ومنصاتها الرقمية ودعاياتها وأما الرأي العام  واحتكاره والسيطره عليه وتوجيهه  فهو هدف أساسي  للحرب الإيدولوجية والذهنية للنظام العالمي واسلحتها الأساسية هي الدينوية والقوموية والجنسوية والعلموية كدين وضعي صعب إن لم يكن من المستحيل الأعتراض عليه.  
ويبقى البحث عن الهوية المجتمعية بجميع ميادينها، وتحليلها ، وعرض حلولها ، هو صلب العمل و الكفاح والإصرار على الحياة  ولو بخطوطها العريضة، ونستطيع القول أن الموقف الفكري أو الذهني أو الإيدولوجي الصحيح  يعبر عن تخطي الهيمنة الأيدولوجية الإجتماعية والنمط الاستشراقي في التناول والمقاربة  للنظام الهيمنة العالمي ويرتبط بهذا الموقف إظهار مدى افتقارنظام الهيمنة العالمي إلى الحقيقة(تفضيل الفردية على المجتمع، شن الهجوم على الهوية المجتمعية ومحاولة طمسها وإضعافها) وعكس حقيقة  المجتمع الديمقراطي الاقتصادي والأيكولوجي ، و مدى قوة هذه الحقيقة.
 يجب التخلي وترك مفهوم وثقافة ونمط حياة نظام الهيمنة العالمي(الحداثة الرأسمالية) المفروض وتخطيه بكل تأكيد، والذي يبدو على المرء كرداء من النار و اللعنة لفصله بين الفكر والقول والعمل. فعلامات النبل والجلال والأخلاق هي ضرورة عدم التمييز إطلاقًا بين الفكر والقول والعمل، والتحلي بالحقيقة دومًا، وعيشها  ضمن تكامل كلي . فالباحث عن الحقيقة قديمًا وراهنًا أوالكادر الأكاديمي هو الدماغ والتنظيم والأوعية الشعرية المنتشرة في الجسم ( المجتمع) كحقيقة متكاملة. و الحقيقة هي الواقع الكلياتي المعبر عنه. والكادر أو الباحث عن الحقيقة هو الحقيقة المنظمة والمصيرة ممارسة فعلًا وتنفيذًا.  
على ثقافة منطقتنا( الشرق الأوسط  وشمال أفريقيا) ان تدرك أثناء تحديثها لذاتها وقيمها وجوهرها الإنساني والمجتمعي أن السبيل إلى ذلك يمر من ثورة الحقيقة التي هي ثورة الذهنية وثورة نمط الحياة ومناهجه.  إنها ثورة الخلاص من الهيمنة الفكرية والذهنية و الأيدولوجية . ويجب عدم إهمال بعض علماء الدين و التيارات والشوفينين العرقيين الزائفين المشبسين بالتقاليد شكلًا. فهم لايحاربون  ولايرفضون نظام الهيمنة العالمي وأدواتها من السلطات الإقليمية والمحلية، بل يطعمون في حصص ولو قليلة مقابل أن يكونوا حراسًا أوفياء للنظام القائم ولإستمرار هيمنته. لذا يستحيل التفكير قطعيًا  في أنّ أمثال هؤلاء يكافحون في سبيل الحقيقة. وهم ليس مهزوميين فقط أمام نظام الهيمنة العالمي بل هم في وضع التملق والتزلف أيضًا والتحول إلى الذنب والملحق التابع بدون أي إرادة.
 وإذا كانت هناك من يسعى ويصر على البحث عن الحقيقة  كما بعض الحركات والطاقات والأطر المجتمعية والشعبية و الحركات الديمقراطية و اليسارية والفامينية والأيكولوجية والثقافية و يطمحون إلى مناهضة الحداثة(نمط وثقافة النظام المهيمن العالمي) بمنوال مبدئي عليهم بمعرفة كيفية خوض حرب الحقيقة ضمن كلياتها وإسقاطها على أنماط حياتهم أيضًا في كل الأوقات وليس قبل وبعد الوصول للحقيقة.
نعتقد أن تكبر وتتعاظم حرب الحقيقة بالمعنى والفعل وتحرز النجاح، كلما دارت رحاها في كافة  ساحات ومجالات الحياة، وفي جميع الميادين الإجتماعية، و في الوحدات والمكونات والبنى الاقتصادية والأيكولوجية والحياة المشتركة الكومونالية والمدن الديمقراطية، والأماكن المناطقية والإقليمية والوطنية وما وراء الوطنية.، لايمكن  خوض حرب الحقيقة ، دون معرفة العيش كالرسل والحواريين والدراويش والفدائيين البارزيين في مطلع فترات ولادة الأديان والإنعطافات الكبيرة في منطقتنا والعالم، وأخذهم قيم عليا كونهم بناة الهويات المجتمعية التي نعيش عليها إلى اليوم ومعظم جوهرنا الإنساني والأخلاقي نابع منهم.
 إن الشرق الأوسط في حاجة إلى أمثال أسيادنا إبراهيم و موسى وعيسى ومحمد وأمثال القديس بولص وماني ومنصور الحلاج والسهروردي وبرنو وزرادشت وغيرهم . ذلك من غير الممكن إحراز النجاح والوصول للحقيقة في المنطقة دون التحلي بالإرث المتجدد و المستحدث للقدامى الأوائل والذي لم يؤكل عليها الدهر ولم يشرب . فالثورات والثوار والأفكار العظيمة لايموتون إنما  يخلدون وهذا ممكن بتبيني ميراثهم. وثورة الشرق الأوسط هي توحيد الفكر والقول والعمل وهي غنية في هذا المجال، وكردستان كونها قلب المنطقة ومركزها ومع مشروع العصرانية الديمقراطية أو كونفدرالية الشرق الأوسط الديمقراطية البديل عن نظام الهيمنة الليبرالي العالمي  والذي يطرحه القائد والمناضل عبدالله أوجلان يستطيع الكرد لعب دور ريادي ومحوري وبناء في ثورة الشرق  وخصوصًا في ظل عدم تلوثهم بأمراض السلطة والدولة والطبيقية بشكل كبيرو مساهمتهم و دورهم التاريخي ولانتقاداتهم بشأن الحضارة المركزية ونظام الهيمنة العالمي وكذلك لحاملي الكتب السماوية حتى لايتحولوا إلى أدواة بيد نظام الهيمنة ضد المنطقة وثقافتها وحقيقتها وهويتها المجتمعية ولتبقى ميراث حياتنا الذي لم يتقادم، وهويتنا المجتمعية التي لايستطيع أحد محوها أو إبدالها.  ومناضل الحقيقة أو رائدها أو أكاديمييها في المشروع الديمقراطي المأمول، هو ذاك الذي ينقش هذه الهوية ويرسخها ويحيا الحياة بها ويحييه بحرية. 
.