الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نرمين الشال تكتب: السطو على سير النبلاء

صدى البلد

كانت المرة الأولى التي أقرر فيها الذهاب إلى حفل تأبين، ربما لأنها  أول مرة  توجه إلى فيها دعوة كهذه، ( تأبين ) كلمة أعرفها منذ زمن، وكذلك  الطقوس أستطيع أن أدعي معرفتي بها فكثيرا ما تم تجسيدها في المسلسلات،  والأماكن وإن اختلفت تبدو متشابهة إضاءة  خافتة،  يجلس الحاضرين على مقاعد منظمة لا يلتفت  أحدهم للأخر، الكل يبدوا عليه  الحزن  حتى ولو كان يحمل في داخله شعورا  مختلف،  إجمالا فإن كل ما حولك  له مظهرا قاتم  وكئيب  حتى الجدران، والستائر، والمشهد يبدو جنائزي بجدارة. 

مع كل هذا ورغم أنني  لم استسغ تلك الكلمة أبدا  عزمت على الحضور  تكريما لزميلي الراحل، ولأني رغبت في مقابلة أبنائه لتقديم واجب العزاء،  فهم  مازالوا فتية في مقتبل العمر،  أردت أن أخبرهم عن والدهم كم كان كريم الأخلاق،  صادقا ومحبا للخير، أردت أن  يروا هذا الإرث الطيب الذي تركه لهم في نفوس الناس وقلوبهم.  

 جاء اليوم المحدد  وتعمدت الوصول متأخرة  بضع دقائق  تجنبا لأحاديث الثرثرة، لكن هذه الدقائق تضاعفت بسبب تلكؤ  سائق التاكسي، بالرغم من هذا وصلت في التوقيت المثالي بالنسبة لي،  وأخذت مقعدي في الصف الثاني.  

بدأت المراسم وتتابعت الكلمات، وكان  رثاء أشبه بالنحيب، وبترت دموع المتحدثين كلماتهم، فبدأ المنظمون يوجهون الدعوة للحاضرين طالبين ممن أراد الحديث  أن يتقدم، ورأيت شخصا أعرفه لكن لم أعهده صديقا لزميلي يوما ما،  رأيته  صاعدا للمنصة أمسك الميكروفون وبدأ حديثه قائلا : إن الفقيد كان أخي وكنت أقرب شخصا إليه رافقته  في أخر أيامه.  ثم استرسل في سرد وقائع عن زميلي الراحل فاستشعرت من لغة جسده أنه غير صادق، وتمادى يحكي ويتبع كل جملة بقسم فتأكدت أنه يكذب.

 التفت إلى زميل  كان يجلس بجواري فوجدته ينظر إلىَّ ويذم شفتيه من الغيظ، وفكرت كيف نُوقف هذا الأفاق عن الكذب، فلم أجد شيئا أفعله  سوى  الانصراف، قمت من مكاني وتبعني زميلي انتظرنا دقائق خارج القاعة عله ينهي حديثه لكنه  كان أشبه بالحاوي الذي  قدم فقرة ولما أعجبت الجماهير تمادى في العرض،  وغادرت المكان  دون تقديم  العزاء، وبعد أيام عرفت أن هذا الشخص أصبح الصديق الأقرب لأسرة زميلنا الراحل  فلم أستغرب. 

كنت أعد تقريرا صحفيا عن واحدا من  المؤرخين الراحلين  وكان علىَّ أخذ تصريحا من أحد أفراد عائلته، اتصلت بابن شقيقه  فرحب  وتبادلنا أطراف الحديث،  وحين قلت له إن  فلانا ذكر  كذا وكذا عن  سمات عمك الراحل، فقال وما أدراك أنها الحقيقة ؟  قلت : كان صديقا ورفيقا له في  آخر أيامه،  قال : وهل رأيتهم سويا ؟ قلت : لا ....  لكن الجميع يعرف ذلك،  فقاطعني  : وهل عرفتم منه أم من عمي الذي رحل ! وأكمل : سيوجد دوما من يحاول أن يستفيد من سير الراحلين وتاريخهم.

 وبالفعل فكلما مر الوقت تأكدت من  صدق حديثه،  الكاتب السوري بلال شحادات،  دون شهادة هامة حول ما رآه  في  جنازة المخرج  حاتم على، قال: النفاق من أحقر وأحط السلوكيات البشرية، خاصة في حالات الحزن والأسى،  كيف يستغل مجموعة أشخاص الحزن على فقدان  شخص غالي ويسارعون بالوقوف أمام الكاميرات يبكون بدموع كاذبة، يهتمون بالتصوير والحديث أكثر من تقديم العزاء لأهل الفقيد، ليتكم جلستم في بيوتكم. 

الكاتب وحيد حامد أيضا لم يسلم من هؤلاء المدعين فبعد ساعات من رحيله خرج علينا من يدعي معرفته به  ومرافقته له، وكأنه مزاد حول من يكشف  لنا عن  أخر حديث وأخر جملة كتبها  وأخر تعليق، فكثرت الجمل والوصايا والتعليقات وتاهت الحقيقة. 

 من الجميل أن نرافق شخصا  بمودة ونصادقه بإخلاص،  والأجمل أن يظل هذا الوفاء موصولا بعد وفاته، لكن ما رأيت  وما سمعت ليس إلا  حوادث مؤسفة  قام بها  أشخاص متملقون أرادوا السطو على سير هؤلاء النبلاء.